مقتل جورج فلويد: قتل عمد أم غير عمد؟

يوم الاثنين 3 شوال 1441هـ (25 مايو 2020م)، قتلت شرطة مينيابوليس بولاية مينيسوتا بالولايات المتحدة الأمريكية رجلا أسود اللون، اسمه جورج فلويد، يبلغ من العمر 46 عامًا. جريمة قتْل جورج فلويد وقعت أثناء محاولة الشرطة اعتقاله على خلفية شبهة استخدامه ورقة نقدية مزورة بقيمة 20 دولارا لاقتناء علبة سجائر من محل تجاري يُسمى « كوب فودز»، ورفضه إرجاع علبة السجائر لما طلب منه عاملٌ بالمحل ذلك. أربعةٌ من أفراد الشرطة اشتركوا في جريمة قتل جورج فلويد، وهم: دِيرِيك ميشائيل تْشُوفِين، جيه ألكسندر كوينج، توماس كيرنان لِين، تُو ثاوُو. الثلاثة الأوائل قاموا مباشرة بقتل جورج فلويد، حيث كان دِيرِيك تْشُوفِين يضغط بركبته على عنق الضحية، في حين كان ”جيه ألكسندر كوينج“ و”توماس كيرنان لِين“ جاثمين على ظهر جورج فلويد، مما أدى الى قتله خنقا. ويُنسب لـ”دِيرِيك تْشُوفِين“ النسبة الأكبر في قتل جورج فلويد، حيث كان يضغط مباشرة على عنق الضحية. أما تُو ثاوُو، فقد ساهم في عملية القتل حيث كان يحمي ظهر زملائه القتلة ويمنع المارة من التدخل لإنقاذ جورج فلويد من الموت.
دِيرِيك تْشُوفِين بقي ضاغطا بركبته على عنق جورج فلويد لمدة 8 دقائق و46 ثانية. جورج فلويد فقد الوعي تماما وبدأ يخرج الزبد من فمه بعد حوالي 6 دقائق، ومع ذلك استمر دِيرِيك تْشُوفِين في خنق فلويد لمدة ثلاث دقائق تقريبا، واستمر في عملية الخنق حتى لما كان رجل الإسعاف يفحص الضحية، ولم يتزحزح دِيرِيك تْشُوفِين عن الضحية إلا لما أكد المسعف أنه مات!
الاحتجاجات الشعبية اضطرت الادعاء العام لتغيير نوع التهم الموجهة للقتلة
تم القبض على دِيرِيك تْشُوفِين يوم 7 شوال 1441هـ (29 مايو 2020م)، حيث وُجهت له تهمة القتل من الدرجة الثالثة. جريمة قتل من الدرجة الثالثة، تصنيف لا يوجد إلا في ولايات فلوريدا ومينيسوتا وبنسلفانيا. يُعَرَّف القتل من الدرجة الثالثة بموجب قانون ولاية مينيسوتا، على أنه قتل شخص آخر عن غير قصد من خلال ممارسة غير عقلانية دون اعتبار لحياة الإنسان. وأقصى عقوبة القتل من الدرجة الثالثة هي 25 سنة، وقد تضاف إليها تعويض مالي بقيمة 40000 دولارا على أقصى تقدير. وإذا كانت عملية القتل من الدرجة الثالثة هي أول جريمة للجاني، فعادة لا يسجن في مينيسوتا أكثر من 12,5 سنوات. ومع استمرار وتوسع الاحتجاجات الشعبية في مختلف ولايات أمريكا، اضطر الادعاء العام في مينيسوتا الى رفع مستوى وعدد التهم ضد دِيرِيك تْشُوفِين، لتشمل القتل غير المتعمد من الدرجة الثانية، وتوجيه تهمة المساعدة والتحريض على القتل من الدرجة الثانية غير المتعمد لضباط الشرطة الثلاثة الآخرين. أقصى عقوبة القتل من الدرجة الثانية غير المتعمد هي 40 سنة، ويمكن إنهاء مدة الحبس بعد خمسة عشرة سنة.
قتل عمد أم غير عمد؟
حتى بتغيير الادعاء العام بولاية مينيسوتا الأمريكية التهم الموجهة لرجال الشرطة الذين قتلوا جورج فلويد من قتل درجة ثالثة الى قتل غير متعمد من الدرجة الثانية، فهذا لن يحقق العدل الذي يضمد الجروح ويطيب الخواطر وينزع الضغائن من القلوب، ولن يشكل ردعا للشرطة فيمنعهم من ارتكاب جرائم قتل في المستقبل. فالمشكلة الأساسية تكمن في القوانين التي تحمي الشرطة من المتابعة والمقاضاة، وتصعب حتى مجرد فتح تحقيق قضائي مستقل ضدهم. كما تكمن المشكلة في عدم اعتبار جرائم الشرطة على أنها جرائم أصلا، وإنما يعتبرونها في الغالب “أخطاء”، وتكمن في عدم تصنيف جرائم القتل التي تقع من الشرطة على أنها قتل عمد.
فما هي معايير تصنيف عملية قتل بأنها قتل متعَمد أم غير متعمد؟
لكل ولاية من الولايات المتحدة الأمريكية معاييرها الخاصة، كما تختلف المحاكم في تأويل أفعال القاتل والقوانين على السواء، وتختلف في كيفية تطبيق تلك القوانين. فكثيرا ما يختلف التأويل والتطبيق حسب من هي الضحية ومن هو الجاني. فإن كان القاتل مثلا رجلا أسود اللون ومن الطبقة الضعيفة، فغالبا ما تطبق تلك المعايير والقوانين في أقصى وأشد تأويلٍ لها. لكن إذا كان القاتل رجلا من الشرطة مثلا، فغالبا ما يتم تهوين الجريمة وتأويل فعل الجاني بصورة تزيل البشاعة عن فعلته، ويتم تطبيق القوانين في أدنى درجات شدتها، هذا إن وجهت للشرطي تهمة قتل أصلا. والسؤال الذي يجب أن يُطرح، هل صفة “العمد” في حادثة قتل يجب أن ترتبط بنية القاتل فحسب، أم يجب أن يُنظر في طريقة القتل وأداته، وفي الفترة الزمنية التي احتاجتها عملية القتل؟ فرَأْيُنا هنا أن القتل الذي لا يحدث فجأة وبسرعة، والعنف الذي يستعمل وسائلَ معلومٌ بالضرورة أنها تؤدي للقتل، وإذا انتفت احتمالية أنه لم يكن بالإمكان إيقاف هجوم شخصٍ إلا بقتله، كل هذه الحالات يجب أن تُصنف على أنها قتل عمد، بغض النظر عن نية القاتل. فمثلا حين يكرر شخصٌ عدة مرارات ضرب شخصٍ آخر بأداة صلبة أو حادة على رأسه، دون أن يكون المَضروب يشكل خطرا على الجاني، ناهيك عن الحالة التي لا يهاجم فيها الضحية الجاني أصلا، فهذا يجب أن يُصنف على أنه قتل عمد، ولا يُسأل عن نية القاتل. فالمعلوم بالضرورة، والذي لا يحتاج دراسة طب أو قانون، أن الضرب مرارا وتكرار على الرأس بأداة صلبة أو حادة يؤدي الى موت الضحية، وفي أحسن الأحوال يؤدي الى عاهات دائمة، يحصل فيها تلف عدة وظائف للدماغ فيُصاب بالشلل مثلا، الخ. وحين يرمي شخصٌ شخصا بعدة رصاصات، وليس رصاصة واحدة فقط تَشلُّ حركته وتمنع إمكانية صدور أي خطر منه، وخصوصا إذا أُطلقت الرصاصات على أعضاء حيوية من جسم الإنسان كالرأس والرئة، فهذا يجب أن يصنف على أنه قتل عمد، ولا يُسأل عن نية القاتل.
وحين يقتل شخصٌ شخصا آخر خنقا بطريقة مباشرة، أي بالضغط بيديه أو رجليه أو بأي أطراف من بدنه على أماكن من جسم الضحية تقطع عملية وصول الهواء للضحية – كالرقبة، أو الصدر، أو الأنف والفم –، أو باستعماله أداة خنق كحبل أو ما شاكل ذلك توضع حول الرقبة، فهذا يجب أن يصنف أيضا على أنه قتل عمد، ولا يُسأل عن نية القاتل، لأنه من المعلوم بالضرورة أن الخنق يؤدي للوفاة، فهذا حقيقة يدركها كل إنسان، ولا تحتاج لدراسة ولا دراية بالطب والقانون. فالقتل غير العمد، من بين ما يجب أن يتوفر عليه هو:
- شرط «الفُجاءَة».
- أو الشخص الآخر يشكل خطرا لا يمكن صده إلا بممارسة عنف مفرط.
- أو وفاة الشخص الآخر بوسيلة أو أداة أو طريقة لا يؤديان عادة للموت.
فمثلا طلقة واحدة بالرصاص لصد هجوم شخص أدَّت الى وفاته، يمكن اعتباره قتلا عن غير عمد. لكن حين يسقط المهاجم على الأرض بعد الطلقة الأولى ويفقد القدرة على الهجوم – سواء لأنه مات بتلك الطلقة الواحدة أو أصيب بجرح شل حركته –، ومع ذلك يستمر القاتل في إطلاق مزيد من الرصاصات عليه، فهذا يجب أن يُصنف على أنه قتل عمد. فالطلقة الأولى كانت ردة فعل تلقائية فُجائية لصد هجوم، تدخل في حيز القتل غير العمد. لكن طلقات الرصاص الإضافية قطعا لم تكن كذلك. فإن كان الهدف شل خطر المهاجم، فطلقة الرصاص الأولى قد أدت الغرض، أما أكثر من ذلك فهو يدخل في حيز القتل العمد. وقد رأينا العديد من جرائم قتل بهذه الطريقة من قِبَل الشرطة الأمريكية، ومع ذلك لم تُصنف على أنها قتل عمد.
القتل خنقا يدوم عدة دقائق. حين يُقطع حصول الانسان على الهواء للتنفس، فإنه يفقد الوعي بعد فترة وجيزة (عادة 30 ثانية الى دقيقتين). بعد ذلك تبدأ خلايا الدماغ في الموت، وكلما طال الخنق كلما ارتفعت نسبة تلف الدماغ ووقوع عاهات مستديمة. وبعد حوالي خمسة دقائق من الخنق (قد تقل أو تزيد قليلا، حسب حال الضحية)، يموت الشخص. فالقتل خنقا لا يمكن اعتباره قتلَ فُجاءَة، إذ يستوجب عملية ضغط بقوة وإرادة وإصرار، دون انقطاع لعدة دقائق. فالتصرف الفجائي تنتفي فيه ميزة الإصرار والمداومة لفترة من الزمن. وحتى إن جاز استعمال عملية الخنق للدفاع عن النفس، فيجب التوقف بمجرد ما يفقد الشخص وعيه، أَيُّ استمرار في عملية الخنق بعد ذلك يدخل في حيز القتل العمد. وما بالك لو استُعملت عملية الخنق ضد شخص غير مهاجم أصلا، كما حصل مؤخرا مع جورج فلويد في مينيابوليس بولاية مينيسوتا بالولايات المتحدة الأمريكية. لم يشكل جورج فلويد في أي لحظة خطرا على حياة الشرطة الذين أرادوا اعتقاله، ولا على المارة، ومن تم يجب تصنيف قتله على أنه قتل عمد، خصوصا أن وسيلة القتل هي الخنق، الوسيلة التي من المعلوم بالضرورة أنها تؤدي للوفاة.
فهرس الأسماء الأعجمية:
دِيرِيك ميشائيل تْشُوفِين = Derek Michael Chauvin
جيه ألكسندر كوينج = J Alexander Kueng
توماس كيرنان لِين = Thomas Kiernan Lane
تُو ثاوُو = Tou Thao
مصادر:
- الدعوة القضائية المُقدمة ضد دِيرِيك تْشُوفِين: “مقاطعة مينيسوتا في هينيبين، ولاية مينيسوتا، المدعي العام ضد ديريك مايكل شوفين” https://www.ag.state.mn.us/Office/Communications/2020/docs/Complaint_Chauvin.pdf
- الدعوة القضائية المُقدمة ضد جيه ألكسندر كوينج: “مقاطعة مينيسوتا في هينيبين، ولاية مينيسوتا، المدعي العام ضد جيه ألكسندر كوينج” https://www.ag.state.mn.us/Office/Communications/2020/docs/Complaint_Kueng.pdf
- الدعوة القضائية المُقدمة ضد توماس كيرنان لِين: “مقاطعة مينيسوتا في هينيبين، ولاية مينيسوتا، المدعي العام ضد ديريك توماس كيرنان لِين” https://www.ag.state.mn.us/Office/Communications/2020/docs/Complaint_Lane.pdf
- الدعوة القضائية المُقدمة ضد تُو ثاوُو: “مقاطعة مينيسوتا في هينيبين، ولاية مينيسوتا، المدعي العام ضد تُو ثاوُو” https://www.ag.state.mn.us/Office/Communications/2020/docs/Complaint_Thoa.pdf