سياسة

تركيا مسمار جحا الأمريكي: ليبيا نموذجا

تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي، تتمركز فيها أكثر من عشرين قاعدة عسكرية لهذا الحلف الأمريكي، وعلى رأسها قاعدة إنجرليك التي تحتوي على أسلحة نووية أمريكية ويتمركز فيها أكثر من ألفي جندي أمريكي ولعبت أدوارا مهمة خلال الحرب الباردة وفي الحرب على العراق وأفغانستان وسوريا. تركيا، التي يكِنُّ حكامها وجيشها الولاء لأمريكا، وعلى رأسهم الرئيس رجب طيب أردوغان الذي دعمت أمريكا وصوله للحكم وحمته من الجيش التركي، تركيا التي كانت أداة مهمة بيد أمريكا خلال حربها الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، لازالت اليوم تشكل أداة مهمة بيد الولايات المتحدة الأمريكية في تنفيذ مخططاتها في عدة مناطق، وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط. فتركيا دولة وظيفية للنظام الدولي الذي تفرضه أمريكا، لا فرق بينها وبين باقي دويلات سايكس بيكو كالسعودية ومصر وقطر والإمارات والأردن والمغرب وتونس والجزائر وباكستان وماليزيا، والسودان، الخ. فالفرق بين الدويلات الوظيفية يكمن في طريقة الأداء فحسب ونوع المهام التي يُحاطون بها. فليست هناك دولة واحدة في العالم الإسلامي لها ذرة من السيادة لتقرر مصيرها الذاتي، ناهيك أن تتخذ قرارات من تلقاء نفسها للتدخل في أي صراع خارج حدودها، كالصراع في سوريا أو السودان أو اليمن أو ليبيا الخ. فالدويلات الوظيفية لا تقوم إلا بما يوكل إليها من سيدهم الغرب. ودفع أمريكا الدويلات الوظيفية للتدخل هنا وهناك لصالح مشاريعها – أي مشاريع أمريكا -، هو أرخص طريقة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فلماذا تقوم أمريكا بالعمل كله لوحدها، وتنفق الأموال الباهظة وتضخي بالجنود، إذا كانت ستحقق أهدافها بدفع آخرين للقيام بالأعمال الوسخة المكلفة، وتحتفظ هي بالقيادة والأمر والنهي وتقطف النسبة الأكبر من الثمار.  ويجب إدراك أن الأنظمة الوظيفية في البلدان الإسلامية، رغم مساهمتها في تنفيذ سياسات الغرب، إلا أنها ليس لديها صورة كاملة للمشاريع والمخططات الأمريكية في العالم الإسلامي، ولا أبعاد أهدافها على المدى المتوسط والبعيد. فالدول الوظيفية تقوم بأدوار جزئية مرحلية فحسب، لتحقيق قسط من المخطط الأكبر الذي لا تعرف كل جزئياته وتفاصيله وأهدافه بعيدة المدى إلا أمريكا. فالدول الوظيفية نظرتها سطحية قصيرة، عندهم عقدة تجاه دول الغرب وهمهم إرضاء النظام الدولي بخدمته.

التدخل التركي في سوريا كان بإيعاز من أمريكا للمساهمة في تنفيذ مخطط النظام الدولي

فالتدخل التركي في سوريا كان بإيعاز من أمريكا وتحت إمرتها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أكد وزير الخارجية القطري السابق، حمد بن جاسم، في برنامج “الحقيقة” الذي بثته قناة قطر في محرم 1439هـ (أكتوبر 2017م)، أن الدعم العسكري الذي قدمته قطر وتركيا والسعودية للجماعات المسلحة الثورية في سوريا، كان بالتنسيق الكامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأن “كل شيء يُرسل للثوار يتم توزيعه عن طريق القوات الأمريكية”.

بعد نجاح أردوغان في المهمة الأمريكية في سوريا وسعت أمريكا دوره ليشمل ليبيا

لما نجح أردوغان في المهمة التي أُوكلت له والتي تمثلت في المساهمة في إفراغ سوريا ما أمكن من أهل السُّنة، واحتواء الفصائل المقاتلة حتى لا تخرج عن المخطط المرسوم لها، وسعت أمريكا مهام تركيا، فأوكلت لها مهمة التدخل في الصراع المسلح الليبي لترجيح كفة ما يسمى «حكومة الوفاق الوطني» التي يرأسها فائز السراج وجناحها العسكري «الجيش الليبي»، ضد ما يسمى «الحكومة المؤقتة» أو «حكومة طبرق» وجناحها العسكري «الجيش الوطني الليبي»، الذي يقوده خليفة حفتر. انبثقت ما تسمى بـ «حكومة طبرق» عن برلمان طبرق “المُنحل” في ذي القعدة 1435هـ (سبتمبر/أيلول 2014م)، وتتخذ من مدينة البيضاء شرقي ليبيا مقرا لها ويترأسها عبد الله الثني. وتحظى هذه الحكومة بدعم خليفة حفتر الذي يتزعم «الجيش الوطني الليبي»، الجيش الذي كان “معترفا” به دوليا حتى 1437هـ (نهاية 2015م). أما ما يسمى «حكومة الوفاق الوطني»، فقد تشكلت بموجب «اتفاق الصخيرات» في جمادى الأولى 1437هـ (فبراير/شباط 2016م)، وهو اتفاق “سلام” برعاية وشروط الأمم المتحدة – لذلك يُقال عنها أنها “مُعترف” بها دوليا –، وقعه مجموعة من برلمانيين ليبيين بمدينة الصخيرات المغربية. لم تعترف «حكومة طبرق» بالاتفاق، ومن تم استمرت الحرب الأهلية في ليبيا الى يومنا هذا. استطاعت مؤخرا القوات التابعة لحكومة الوفاق بمساعدة تركيا، وتنسيق تركي-روسي تحت مظلة الولايات المتحدة الأمريكية، تحقيق انتصارات على الأرض ضد قوات حفتر، حيث سيطرت على كامل الحدود الإدارية لطرابلس، ومدينة ترهونة، ومدينة بني وليد وكامل مدن الساحل الغربي، وقاعدة الوطية الجوية، وبلدات في الجبل الغربي. وأطلق ما يسمى «الجيش الليبي» التابع لحكومة الوفاق، في 15 شوال 1441هـ (6 يونيو 2020م)، عملية “دروب النصر” لتحرير مدن وبلدات شرق ووسط البلاد، في مقدمتها سرت والجفرة والوشكة. إلا أن قوات حكومة الوفاق تجد صعوبة بالغة في التقدم نحو سرت، إذ تصد لها طيران حربي روسي مما أدى لخسائر بشرية وأسلحة في جانب قوات الوفاق. وتزامنا مع هذه الأحداث، وكعادتها، تدعو أمريكا إلى وقف لإطلاق النار في ليبيا برعاية الأمم المتحدة. وكأن الغرض من ترجيح كفة «حكومة الوفاق الوطني»، هو جر الأطراف المتناحرة الى مائدة المفاوضات المضنية، التي تفرض فيها أمريكا رؤيتها ورجالها كحكام في ليبيا.

تركيا مسمار جحا الأمريكي ضد الأوربيين

عقب مكالمة هاتفية بين أردوغان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 17 شوال 1441هـ (6 يونيو 2020م)، صرح أردوغان في لقاء صحفي مصور مع قناة تي.آر.تي في 19 شوال 1441هـ  (8 يونيو 2020م) أنه ستبدأ فترة جديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا فيما يتعلق بعملية ليبيا، وأنهما – أي أردوغان وترامب – لديهما اتفاقات بخصوص ليبيا، دون أن يدلي بتفاصيل عن تلك الاتفاقات. فتركيا لم تتدخل في الصراع الليبي إلا بإيعاز من أمريكا وتحت مظلتها وحمايتها. وقد نجحت تركيا في ترجيح كفة «حكومة الوفاق الوطني»، ولو الى حين (حسب ما ستراه أمريكا)، تماما كما أرادت الولايات المتحدة الأمريكية، وحققت بذلك ضربة موجعة ضد الأوروبيين. إذ لم تستطع أوروبا، وهي التي تدخلت في الحرب الأهلية الليبية منذ اليوم الأول سنة 1432هـ (2011م)، تحقيق أي توازن في القوى يحسم الصراع لصالحها، رغم أن غالب الدول الأوروبية كانت الأكثر حماسا لصالح «حكومة الوفاق الوطني» ضد «حكومة طبرق» وقائدها العسكري حفتر. وكما حصل من قبل في سوريا، حيث تم تحييد التأثير الأوربي بشكل واسع، عن طريق إقحام أمريكا لروسيا وتركيا في الصراع هناك، فأصبحت المحادثات بشأن سوريا تتم حصريا بين روسيا وتركيا تحت مظلة أمريكا “الغائبة/الحاضرة”، ها نحن على وشك إنتاج نفس اللعبة في ليبيا، حيث تم الإعلان – بعد انتصارات «حكومة الوفاق الوطني» – عن قرب انعقاد محادثات تركية/روسية بمشاركة وزراء خارجية ودفاع البلدين لمناقشة الملف الليبي (طبعا تحت مظلة أمريكا “الغائبة/الحاضرة”)، بعيدا عن الأوروبيين. أما ما يسمى «حكومة الوفاق الوطني» وجيشها، و«حكومة طبرق» وجناحها العسكري «الجيش الوطني الليبي»، الذي يقوده خليفة حفتر، وباقي الفصائل المقاتلة في ليبيا، فكلهم مجرد بيادق وأدوات، لا قرار لهم ولا ذرة سيادة، يحترقون دون أن يعرفوا على ماذا يقاتلون أصلا. فأمريكا، فعلت بأوروبا في ليبيا، مثل الذي فعلت بهم في حرب البوسنة والهرسك (1991م – 1996م) وحرب كوسوفو (1998م – 1999م). إذ لم تستطع أوروبا الحسم في تلك النزاعات داخل قعر دارها، فجاءت أمريكا لتتولى هي إدارة تلك الحروب، وإنهائها وفرض حلول سياسية ومعاهدات وعقود ثبتت النفوذ الأمريكي داخل قعر أوروبا. فليبيا التي تطل مباشرة على أوروبا وتنظر إليها دولٌ أوروبية – التي بخلاف أمريكا تفتقد لموارد طاقة على أراضيها – كسلة كبيرة شهية ومهمة للطاقة، باتت أصعب المنال من قبل، بدق أمريكا مسماري جحا فيها: تركيا وروسيا.   ولعل من الغنائم التي سمحت أمريكا لتركيا الحصول عليها مقابل مساهمتها في تنفيذ مخططات أمريكا في سوريا وليبيا، هو اتفاقية ترسيم الحدود المائية على البحر المتوسط بين تركيا وحكومة الوفاق، والذي يُمَكِّن تركيا من حق حصري على التنقيب عن الغاز الطبيعي في تلك المياه المتفق عليها. إلا أن هذه الغنيمة هي في نفس الوقت مسمار جحا ضد مصالح أوروبا، إذ تحد الاتفاقية من نفوذ دول أوروبية (على رأسها فرنسا وإيطاليا واليونان) في تلك المياه وقطع الطريق أمامها للاستحواذ على حقوق التنقيب عن موارد الطاقة هناك. فأمريكا تضرب عصفورين بحجر واحد باستعمالها ورقة تركيا، وإلى حد ما ورقة روسيا أيضا. إذ عن طريق تركيا، خصوصا تحت رئاسة أردوغان الذي استطاع الى حد كبير منافسة السعودية على “الزعامة الروحية الإسلامية” في العالم الإسلامي، يمكن لأمريكا بسهولة اختراق واحتواء الجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي واستعمالها لمصالحها وأهدافها، وحرف أي جهود للتحرر من هيمنة الغرب عن مسارها وإرجاعها لبيت الطاعة الغربي. كما أن أمريكا تستعمل تركيا وروسيا لتشتيت الأوراق الأوروبية، وإبعادها ما أمكن عن القدرة على الهيمنة على منابع للطاقة. فأمريكا لا تخاف من روسيا ولا تعتبرها خطرا على اقتصادها، لكن أوروبا هي التي تشكل منافسا حقيقيا للاقتصاد الأمريكي، فتحاول تحجيم طموحاتها الاقتصادية عبر عدة طرق، من بينها إبقائها معتمدة على الطاقة الأحفورية (غاز، نفط، الخ) التي تستوردها من روسيا (وهذا في صالح روسيا أيضا) ودول الخليج وبلدان أخرى. كما أن أمريكا تريد إبقاء صورة روسيا كبعبع تخوف به أوروبا. هذا ناهيك عن محاولة أمريكا زرع تركيا كمسمار جحا في الاتحاد الأوروبي، بدعمها طلب تركيا العضوية فيه.

ما هو مصير الحرب الأهلية في ليبيا؟

حتى الساعة ليس واضحا ما الذي تسعى إليه أمريكا من دفعها الليبيين للتناحر فيما بينهم. فأمريكا هي الماسكة بخيوط اللعبة كاملة في ليبيا، فتساند حينا هذا الطرف ضد الآخر، ومرة أخرى تساند الطرف الثاني ضد الأول فترجح كفته ميدانيا. فأمريكا معترفة من ناحية بما يسمى «حكومة الوفاق الوطني»، وهي من أوعزت لتركيا مساعدتها عسكريا، لكنها – أي أمريكا – كانت معترفة أيضا بجيش حفتر وأوعزت لمصر والإمارات وروسيا مساعدته عسكريا. وترامب صرح سابقا بأنه يجب أن يكون لحفتر دورا في ليبيا.  فالدول الوظيفية في العالم الإسلامي، وعلى رأسها تركيا والإمارات والسعودية ومصر وقطر، تدعم وتمول أطرافا متناحرة في ليبيا وغيرها من البلدان الإسلامية بإيعاز من أمريكا، وليس من قرارات ذاتية. والمعلوم أن من سياسات الغرب عموما وأمريكا خصوصا، هو خلق التناقضات والصراعات سواء داخل الدولة الوظيفية الواحدة أو بتحريض دول وظيفية ضد بعضها البعض. فتجد أمريكا تدعم دويلتين وظيفيتين متصارعتين وتؤجج الخلاف بينهما (كالحاصل بين دول الخليج)، وتؤجج الصراع بين إيران ودول خليجية، لتبتز بذلك كل الأطراف، فتحلب أموالهم، وتفرض عليهم شراء أسلحة خردة استهلاكية، ولتثبت هيمنتها العسكرية على المنطقة. فدعم أمريكا لطرفي الصراع في ليبيا مباشرة أو بإيعاز دول أخرى لمساعدتهم (كتركيا والإمارات والسعودية وقطر ومصر)، من الوسائل الناجحة لإدخال البلاد في دوامة تناحر وتنافر تُضعف كل الأطراف وتسهل تحكم أمريكا بالبلاد لمدى طويل. فالصراع والاقتتال الداخلي في الدويلات الوظيفية، كليبيا، قد يكون في حد ذاته الوضع الذي تريده أمريكا، وليس وضعا مرحليا تسارع لإنهائه، تماما كما فعلت في العراق، ما دام الوضع يخدم مصالحها ويسهل عمليات النهب لخيرات البلاد واستنزافها، ويروج تجارة الأسلحة، الخ. فهل ستُمَكِّن أمريكا «حكومة الوفاق الوطني» من الاستيلاء على كل ليبيا وإقامة دويلة “ديمقراطية” علمانية؟ وما الثمن والمقابل الذي يجب أن تقدمه «حكومة الوفاق الوطني» من أجل ذلك؟ أم أن أمريكا ستعيد مرة أخرى ترجيح كفة ما يسمى «الجيش الوطني الليبي»، سواء تحت قيادة حفتر أو بعد استبداله وتسليم قيادة الجيش لعميل آخر، وتُبقي على الاقتتال الداخلي قائما مادام يخدم مصالحها؟



 

جميع الآراء الواردة بهذا المقال تعبر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

Print Friendly, PDF & Email
اظهر المزيد

مجلة التنوير

موقع مستقل منبر للتحليل العميق للأحداث في العالم منصة لتنوير العقول وإحياء القلوب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Enter Captcha Here : *

Reload Image

زر الذهاب إلى الأعلى