محاكمة قتلة خاشقجي مجرد دعاية إعلامية للنظام التركي

- «لو كانت تركيا جادة في ضبط ومحاكمة قتلة خاشقجي، حتى لو لم تكن جادة في حمايته حيا، لما تركت المجرمين السعوديين يغادرون تركيا بعد انتهائهم من جريمة القتل، رغم الحصانة الديبلوماسية التي كانوا يتمتعون بها»
بعد المحاكمة الصورية لقتلة الصحفي جمال خاشقجي في السعودية، وإكراه النظام السعودي أهل دم خاشقجي بالتنازل عن القصاص من قتلته، بدأت مسرحية قضائية جديدة ضد نفس القتلة، هذه المرة في تركيا.
المحاكمة الصورية الأولى كانت في السعودية
التمثيلية الأولى بدأت في السعودية في 26 ربيع الثاني 1440هـ (يناير 2019م)، أعلنت خلالها النيابة العامة في السعودية، بعد الجلسة العاشرة للمحاكمة، صدور أحكام بالقتل قصاصاً على 5 متهمين في قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وعلى 3 آخرين بالسجن لفترات وجيزة نسبيا. كما قضت المحكمة ببرآة 10 أشخاص آخرين كانوا متهمين في جريمة القتل، من بينهم أحمد عسيري نائب رئيس المخابرات السابق، والمستشار السابق في الديوان الملكي سعود القحطاني.
ويوم 29 رمضان1441 هـ (22 ماي 2020م)، أعلن أبناء جمال خاشقجي، عن عفو عائلته عن قتلة والدهم. فقد نشر صلاح خاشقجي، أحد أبناء جمال خاشقجي، بيانا على حسابه في تويتر كتب فيه: «في هذه الليلة الفضيلة من هذا الشهر الفضيل، نسترجع قول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}. لذلك نعلن – نحن أبناء الشهيد جمال خاشقجي – أنّا عفونا عمن قتل والدنا – رحمه الله – لوجه الله تعالى، وكلنا رجاء واحتساب للأجر عن الله عز وجل، والحمد لله رب العالمين».
المحاكمة الثانية الصورية تجري في تركيا ولا تتعدى كونها دعاية إعلامية للنظام التركي
ويوم 13 ذي القعدة 1441هـ (3 يوليو 2020م)، عقدت في أحد محاكم إسطنبول في تركيا أول جلسة لمحاكمة غيابية ضد 20 متهما سعوديا بالتورط في قتل جمال خاشقجي، والذين تمت تبرئتهم أو العفو عنهم في المحاكمة السابقة الصورية في السعودية. وقد أعدت النيابة العامة في اسطنبول لائحة اتهام من 117 صفحة بحق المتهمين السعوديين الصادر بحقهم قرار توقيف بقضية قتل خاشقجي. وتحتوي لائحة الادعاء العام على اسم خاشقجي بصفة “القتيل” وخطيبته خديجة جنكيز بصفة “المشتكي”، وطلبها الحكم المؤبد بحق كل من نائب مدير جهاز الاستخبارات السعودي السابق، أحمد بن محمد عسيري، والمستشار في الديوان الملكي السعودي سابقا، سعود القحطاني، وذلك بتهمة “التحريض على القتل مع سبق الإصرار والترصد والتعذيب بشكل وحشي”.
وكان الادعاء العام التركي قد وجه اتهامات إلى 20 سعوديا في قضية قتل خاشقجي وإخفاء جثته التي لم يتم العثور حتى الساعة على أي جزء منها. وقد تم قتل خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول في 22 محرم 1440هـ (2 أكتوبر 2018م).
فأمام غياب كل المتهمين عن المحاكمة وغياب حتى محامين للدفاع عنهم، واستحالة إمكانية تركيا القبض عليهم وجلبهم الى تركيا، فإن المحاكمة لا تعدو عن كونها تمثيلية، الهدف منها بالدرجة الأولى هو دعاية إعلامية للنظام التركي، وربما أيضا محاولة ابتزاز النظام السعودي للحصول على أموال أو غير ذلك من مزايا سياسية.
تركيا لم تكن جادة في حماية خاشقجي حيا ولم تكن قط جادة في ضبط ومعاقبة قتلته
نشرتُ سابقا مقالا تحت عنوان: «لماذا لم تحذر تركيا خاشقجي من الذهاب للقنصلية السعودية في إسطنبول؟»، عرضتُ فيه عدة قرائن تدل على أن المخابرات التركية تركت خاشقجي يذهب لحتفه، حين لم تحذره من الذهاب للقنصلية السعودية في إسطنبول، رغم متابعتها عن كثب كل تحركات ومحادثات الفريق السعودي قبيل قدوم خاشقجي الى تركيا، وقبل ذهابه الى القنصلية.
فكما أنه لا يشك عاقل محايد أن محمد بن سلمان كان يعلم مسبقا بخطة قتل خاشقجي، بل وهو من أمر بذلك. كذلك، بعد كل ما سربته المخابرات التركية عن تفاصيل ما قامت به السعودية قبل وخلال وبعد مقتل خاشقجي، فإنه يصعب جدا على كل عاقل محايد استبعاد أن تركيا كانت على عِلمٍ مسبق بمخططات السعودية لاستدراج جمال خاشقجي الى تركيا لقتله في قنصليتها.
ثم لو كانت تركيا جادة في ضبط ومحاكمة قتلة خاشقجي، حتى لو لم تكن جادة في حمايته حيا، لما تركت المجرمين السعوديين يغادرون تركيا بعد انتهائهم من جريمة القتل، رغم الحصانة الديبلوماسية التي كانوا يتمتعون بها.
فمثلا تركيا سمحت حتى للقنصل السعودي، محمد العتيبي، بمغادرة البلاد يوم 6 صفر 1440هـ (16 أكتوبر 2018م)، بعدما أصبح مقتل خاشقجي ثابتا حتى إعلاميا، ورغم أن قوانين “اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963م” تبيح لتركيا اعتقال ذوي “الحصانة القنصلية” إذا كانوا متهمين بِـ “جريمة خطيرة”. فجريمة قتل خاشقجي ارتُكبت في القنصلية التي يترأسها القنصل وهو المسؤول عن كل ما يحدث فيها، وتصفية خاشقجي تمت خلال تواجد القنصل في القنصلية.
وحتى المتهمين السعوديين الذين قد يكون كان لهم “حصانة ديبلوماسية” لا تسمح باعتقالهم، كان بإمكان تركيا على الأقل منعهم من مغادرة البلاد دون اعتقالهم، كأن تجبرهم بإقامة جبرية في فندق أو في القنصلية. ثم تقدم طلبا للسعودية لرفع الحصانة الدبلوماسية عنهم (حسب قوانين فيينا للعلاقات الدبلوماسية)، ليمكنها بعد ذلك اعتقالهم ومحاكمتهم في تركيا. ومع الضغط الإعلامي والدولي الذي مورس بشدة على السعودية آنذاك، كانت ستضطر مرغمة لرفع الحصانة عن المتهمين. أما أن تسمح تركيا لكل المتهمين بمغادرة البلاد، ثم تطلب بعد ذلك من السعودية تسليمهم لها لمحاكمتهم، فهذه تمثيلة جد سخيفة.
مثال على إمكانية منع ديبلوماسيين من مغادرة البلاد المستضيفة وطلب دولهم رفع الحصانة عنهم للتمكن من محاكمتهم
ولنا أمثلة كثيرة قامت فيها دول مُستضيفة بمنع ديبلوماسيين من مغادرة بلدها لارتكابهم جرائم، ثم طالبت دولهم الباعثة لهم برفع الحصانة الديبلوماسية عنهم، ومن ثم استطاعت محاكمتهم.
وأذكر على سبيل المثال لا الحصر، حادثة محاولة خطف الوزير النيجيري عمر ديكو عام 1404هـ (1984م) في لندن من قِبَل النظام العسكري الذي جاء بانقلاب مسلح للحكم في نيجريا وأراد استرجاع وزير النقل السابق عمر ديكو الى نيجريا لمحاكمته، بعدما فر الى بريطانيا واستقر فيها.
المخابرات النيجرية والمخابرات الإسرائيلية (الموساد) دبروا خطة لخطف عمر ديكو، يتم فيها تخديره، ثم نقله في حقيبة دبلوماسية كبيرة (صندوق) الى نيجريا. قاد العملية محمد يوسوفو، ضابط في جهاز المخابرات النيجيرية، والذي دخل بريطانيا بوثيقة دبلوماسية لتنفيذ عملية الخطف. واستُجلب طبيب تخدير من إسرائيل الى لندن، الدكتور ليفي آري شابيرو، مهمته تخدير ديكو بعد خطفه بطريقة يبقى فيها فاقدا للوعي لساعات طوَال مدة النقل الى نيجريا، دون أن يؤدي ذلك الى وفاته.
بالفعل استطاع الفريق النيجيري خطف عمر ديكو من أمام بيته، وتم تخديره من قِبَلِ الطبيب الإسرائيلي شابيرو، ثم وُضع في صندوق (حجمه 1.5 x 1.2 x 1.2 متر) تم صنعه وتجهيزه في مقر السفارة النيجرية.
يومٌ قبل اختطاف ديكو حلت طائرة بوينغ 707 التابعة للخطوط الجوية النيجيرية في مطار ستانستيد القريب من لندن. سُجلت الطائرة على أنها مخصصة لنقل أغراض دبلوماسية من السفارة النيجيرية.
لكن لما انتشر خبر اختفاء عمر ديكو، ربطت المخابرات البريطانية الخيوط مع بعضها البعض، أدركت أن “الطائرة الديبلوماسية” النيجيرية إنما غرضها تهريب عمر ديكو الى نيجيريا، فقامت بتفتيش الصندوق الكبير، رغم أنه مسجل كحقيبة ديبلوماسية لا يجوز تفتيشها. فلما فتحت الشرطة البريطانية الصندوق في المطار، وجدت في داخله عمر ديكو مكبل اليدين والقدمين وفاقداً للوعي، وكان يتنفس بصعوبة من خلال أنبوب بلاستيكي حشر في القصبة الهوائية، وبذراعه اليمنى أنبوبا آخرا ينتهي الى داخل زجاجة بها محاليل طبية رُبطت بإتقان بجدار الصندوق. نُقل ديكو الى المستشفى حيث تم إسعافه ونجى من الخطف والموت.
الشاهد في هذه الحادثة، أن الشرطة البريطانية فتحت الصندوق رغم أنه كان صندوقا ديبلوماسيا، وألقت القبض على 17 شخصا متهمين بالتورط في محاولة الخطف، ومنهم من كانت لهم حصانة ديبلوماسية، واضطرتا حكومتي نيجيريا وإسرائيل الى رفع الحصانة الديبلوماسية عنهم أو حتى أنكرت أن تكون منحت أصلا حصانة ديبلوماسية لبعضهم. أدان القضاء البريطاني أربعة من المتهمين بالضلوع في جريمة محاولة الخطف، وصدر بحقهم الحُكم بالسجن لمدد تتراوح ما بين 10 و14 سنة، منهم طبيب التخدير الإسرائيلي شابيرو، ورجلين من المخابرات الإسرائيلية، وضابط الاستخبارات النيجيري محمد يوسوفو.
يجب التحقيق مع المخابرات التركية على مقتل خاشقجي
فالذي نحتاج إليه الآن، ليس محاكمة صورية ثانية لقتلة خاشقجي، خصوصا أن تركيا لا تتوافر على أي صلاحيات أو إمكانيات لذلك، ما دامت سمحت للمجرمين بمغادرة تركيا.
لكن الذي يجب على تركيا القيام به إن كانت فعلا جادة في اهتمامها بالعدالة، والذي يجب على السياسيين والإعلاميين وأقرباء خاشقجي المطالبة به، هو تحقيق شفاف ودقيق مع أجهزة الدولة التركية المعنية بمراقبة الديبلوماسيين السعوديين والمقار الديبلوماسية السعودية والتجسس عليها، لماذا لم يحذروا خاشقجي من الذهاب إلى القنصلية السعودية؟ فالمخابرات التركية كما تبين كانت تتتبع كل خطوات الفريق السعودي المشارك في جريمة القتل، وكانت تتجسس على كل محادثاتهم سواء داخل القنصلية أو اتصالاتهم الهاتفية والبريدية من وإلى تركيا. فيجب مسائلة ومحاسبة ومحاكمة المسؤولين الأتراك على الإخفاق في حماية خاشقجي، والمحاسبة واجبة سواء كان الإخفاق متعمدا أو بسبب الإهمال وضعف الكفاءة المهنية.
المصادر:
- لمحة تاريخية وحالية لواقع الحصانات الديبلوماسية https://www.raialyoum.com/index.php/لماذا-لم-تحذر-تركيا-خاشقجي-من-الذهاب-لل/
- لماذا لم تحذر تركيا خاشقجي من الذهاب للقنصلية السعودية في إسطنبول؟ https://www.raialyoum.com/index.php/لماذا-لم-تحذر-تركيا-خاشقجي-من-الذهاب-لل/