تاريخ

تصحيح التاريخ: هل فعلا لم تساهم تركيا في غزو أمريكا للعراق سنة 1423هـ / 2003م؟

اقرأ في هذا المقال
  • «أعلن أردوغان قبل التصويت، بأنه من المصلحة الوطنية الاستجابة بشكل إيجابي لطلب الولايات المتحدة بنشر قوات في تركيا»

هناك الكثير من الأكاذيب التي ينشرها معسكر “الأردوغانيين/التميميين” (مُريدي أردوغان/تركيا أو تيميم/قطر)، لا تقل سخافة وجهالة عن أكاذيب “السلمانيين/السيساويين/الزيديين” (مُريدي ابن سلمان أو السيسي أو ابن زايد).

من بين هذه الأكاذيب الفاضحة، ادعاء “الأردوغانيين” أن تركيا لم تساهم في غزو أمريكا للعراق سنة 1423هـ (2003م). ويستعملون هذا الادعاء لتزكية تركيا، ولوصفها على أنها الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي التي تقف ضد الحملة الصليبية الحديثة ضد العالم الإسلامي وانضمت لصف الأمة الإسلامية. فما صحة كل هذه المزاعم؟

الذين يروجون لكذبة “أن تركيا لم تساهم في غزو أمريكا للعراق سنة 1423هـ (2003م)”، يستندون في زعمهم هذا لنتائج تصويت البرلمان التركي في 28 ذي الحجة 1423هـ (1 مارس 2003م)، التي تم فيها رفض مشروع نشر 62000 جنديا أمريكيا في تركيا الى جانب 255 طائرة حربية و65 طائرة مروحية، لفتح جبهة ضد العراق من جهته الشمالية.

إلا أن الذين يستندون لنتائج هذا التصويت، يتعاملون مع الأحداث بمنطق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} دون أن يُكَمِّلوا الآية القرآنية ليتضح الأمر. فهؤلاء الذين يستندون لتصويت البرلمان التركي في 28 ذي الحجة 1423هـ (1 مارس 2003م)، أصحاب هوى ومحرفون للتاريخ، فهم يتعمدون اجتزاء الأحداث وبثرها حسب ما يخدم أهدافهم وحملاتهم الإعلامية.

فما هو التسلسل الحقيقي للتفاهمات التركية ـ الأمريكية بخصوص غزو العراق وما هي نتائجها النهائية؟

استلمت حكومة حزب العدالة والتنمية في رمضان 1423هـ (بداية ديسمبر 2002م) ملف المحادثات التركية–الأمريكية بخصوص غزو العراق، مباشرة بعد فوزها لأول مرة بالانتخابات البرلمانية التركية في 28 شعبان 1423هـ (3 نوفمبر 2020م). وقد كان يترأس الحكومة آنذاك عبد الله غول، الذي كان من المؤسسين الرئيسيين لحزب العدالة والتنمية إلى جانب رجب طيب أردوغان وبولنت أرينج. ولم يتولى أردوغان رئاسة الحكومة إلا في 11 محرم 1424هـ (14 مارس 2003م)، بعدما أقر البرلمان التركي ذات الأغلبية من حزب العدالة والتنمية قانونا رُفِع بموجبه الحظر عن أردوغان والسماح له بالتنافس على مقعد في البرلمان. فتمت إعادة انتخاب ممثلين برلمانيين عن بلدة سيرت الجنوبية الشرقية في 9 مارس 2003م، ليفوز بها أردوغان ويحصل على مقعد في البرلمان التركي، ومن ثم يُنتخب رئيسا للحكومة من قِبَل أعضاء البرلمان في 6 محرم 1424هـ (9 مارس 2003م)، بعد استقالة حكومة عبد الله غول.

وقد كانت المحادثات التركية–الأمريكية قد بدأت في صيف 1423هـ (2002م)، قبل وصول حزب العدالة والتنمية الى الحكم، لتتسلم حكومة عبد الله غول ملف «غزو العراق» وتتمم المفاوضات مع أمريكا.

البرلمان التركي يرخص انطلاق الاستعدادات العسكرية الأمريكية لغزو محتمل للعراق من جنوب تركيا

في رمضان/شوال 1423هـ (ديسمبر 2002م)، أذنت حكومة العدالة والتنمية للولايات المتحدة الأمريكية بإجراء مسح وفحص للقواعد والموانئ العسكرية التركية لتقييم قدرتها ومدى الحاجة إلى تأهيلها لتستطيع استيعاب الطائرات والقوات الأمريكية. وبعد عمليات الفحص والمسح، أخبرت أمريكا تركيا بأنها تريد استخدام تسعة قواعد جوية (مطارات حربية)، بما في ذلك القواعد الجوية في “باتمان”، و”ديار بكر”، و”إنجرليك”، بالإضافة الى الموانئ في مرسين وإسكندرون.

وفي 5 ذي الحجة 1423هـ (6 فبراير 2003م)، صوَّت البرلمان التركي بالسماح للولايات المتحدة الأمريكية بتحديث القواعد بتكلفة تبلغ 200 إلى 300 مليون دولار، ووافق على نشر حوالي 3500 أمريكي من التقنيين والعسكريين في تركيا لمدة ثلاثة أشهر للقيام بالتجديد والتطوير المنشود في تلك القواعد العسكرية والموانئ. على إثر ذلك تعاقدت الولايات المتحدة الأمريكية مع شركات تركية للقيام بأعمال الإصلاح، والتي بدأت في 12 ذي الحجة 1423هـ (13 فبراير 2003م).

وبموجب اتفاقية تحديث القواعد، قامت القوات الأمريكية بنقل مركبات ومعدات عسكرية من إنجرليك ومن القواعد الجوية الأخرى ومن مينائي مرسين وإسكندرون، إلى “مواقع انطلاق” في جنوب شرق تركيا، ليست بعيدة عن الحدود العراقية.

إذًا قبل انطلاق الغزو الأمريكي للعراق، كانت أمريكا قد انتهت من الاستعدادات الرئيسية التي ستسمح بتحرك القوات الأمريكية التي كانت تريد جلبها ونشرها في جنوب شرق تركيا إلى شمال العراق.

تم لاحقا سحب أمريكا للكثير من المعدات العسكرية من جنوب شرق تركيا وشحنها إلى الكويت، لما فشل حزب العدالة والتنمية في تمرير مشروع نشر عدد كبير من الجيوش والطائرات الأمريكية في تركيا.

اتفاق بين الحكومة التركية وأمريكا يسمح بانتشار 62000 جندي أمريكي في تركيا لغزو العراق

توصلت حكومة العدالة والتنمية الى اتفاق مبدئي، يُسمح بموجبه لأمريكا بنشر 62000 جندي أمريكي في جنوب شرق تركيا الى جانب 255 طائرة حربية و65 طائرة مروحية، لفتح جبهة ضد العراق من جهته الشمالية. وفي المقابل تحصل تركيا من الولايات المتحدة الأمريكية على حزمة مساعدات بقيمة 6 مليارات دولار، مقسمة الى 2 مليار دولار “مساعدات عسكرية” و4 مليار دولار مساعدات اقتصادية، بحيث تُستعمل الـ 4 مليار دولار للحصول على 24 مليار دولار ضمانات قروض، للحصول مثلا على قروض من القطاع الخاص (من مصارف خاصة) بأسعار فائدة أقل. علاوة على ذلك تقدم الولايات المتحدة الأمريكية “قرضًا مرحليًا” بقيمة 8.5 مليار دولار على الفور (من صندوق الخزانة الأمريكية). أي في المجمل ما كانت تريد أمريكا تقديمه لتركيا، هو تسهيل حصولها على قروض بنسبة أقل من الربا (الفوائد)، وإعادة جدولة الديون لتتحول مثلا الى ديون طويلة المدى بكلفة أقل من الربا.

بموجب الدستور التركي، كان واجبا على الحكومة عرض الاتفاق المبدئي الذي توصلت إليه مع الولايات المتحدة الأمريكية على البرلمان التركي للتصويت عليه. وقد أعلن أردوغان قبل التصويت، وهو ساعتها لم يكن له أي منصبٍ في الحكومة أو البرلمان، بأنه من المصلحة الوطنية الاستجابة بشكل إيجابي لطلب الولايات المتحدة بنشر قوات في تركيا. إلا أن البرلمان، وبصورة مفاجئة لكل التوقعات، أخفق في التصويت لصالح الاتفاق بفارق 3 أصوات فقط. فقد صوَّت 264 من مجموع 533 برلمانيا كانوا حاضرين يوم التصويت لصالح الاتفاق، وكان تصديق الاتفاق يحتاج لـ 267 صوتا.

أسباب إخفاق البرلمان التركي في الحصول على الأصوات الكافية لتمرير الاتفاق التركي – الأمريكي بشأن غزو العراق

ويرجع سبب إخفاق الحصول على غالبية لصالح الاتفاق بين حكومة العدالة والتنمية وأمريكا لعاملين أساسيين:

أولا، بِحُكم قلة الخبرة لدى حزب العدالة والتنمية، إذ لم يتولى الحكم إلا حوالي ثلاثة أشهر قبل هذا التصويت، وكان لازال يؤمن بالديمقراطية حتى داخل الحزب، فقد سمح لأعضائه في البرلمان بالتصويت بحرية على الاتفاق، كلٌّ حسب موقفه الخاص، ولم يعمم أمرا يلزم كل أعضائه بالتصويت لصالح الاتفاق. وقد كان ضمن حزب العدالة والتنمية أفرادا يخالفون توجهات عبد الله غول وأردوغان، كانوا لازالوا يحملون مشاعر إسلامية ترفض غزو العراق بحكمه بلدا مسلما. ومن ثم صوَّت 99 برلمانيا من مجموع 363 من أعضاء حزب العدالة والتنمية ضد الاتفاق، وامتنع 19 عشر منهم عن التصويت. ومع ذلك فمن الجدير بالذكر هنا، أن أغلبية أعضاء حزب العدالة والتنمية – أي حوالي 245 – صوَّتوا لصالح الاتفاق.

ثانيا، وهذا هو السبب الأهم، صوَّت كل البرلمانيين الأعضاء في حزب الشعب الجمهوري المعارض ضد الاتفاق المبدئي بين حكومة العدالة التنمية وأمريكا، وعددهم حوالي 178. حزب الشعب الجمهوري هو الحزب الممتد عن الحزب الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك، وقد امتنع لأسباب وطنية قومية عن التصويت لصالح نشر الجيش الأمريكي بأسلحته الثقيلة في جنوب شرق تركيا.

صعود أردوغان للحكم وإتمام المتفق عليه بنجاح

من الخطوات التي استغربها الكثيرون من المهتمين بالسياسة، استقبال الرئيس الأمريكي جورج بوش الأكبر لأردوغان في 7 شوال 1423هـ (11 ديسمبر 2002م) في البيت الأبيض، رغم أن أردوغان لم يكن له في ذلك الوقت أي منصب في الدولة، لا رئيسًا للدولة أو الحكومة التركية، ولا وزيرا، ولا حتى برلمانيا. وقد اعتبر الكثيرون اجتماع بوش بأردوغان في البيت الأبيض بأنها جاءت لتؤكد شرعية أردوغان في تولي الحكم في تركيا.

وبالفعل، أسبوعين فقط بعد فشل البرلمان التركي تمرير مشروع الاتفاق المبدئ التركي – الأمريكي بخصوص غزو العراق من الجهة الشمالية انطلاقا من الأراضي التركية، تولى أردوغان رئاسة الحكومة في 11 محرم 1424هـ (14 مارس 2003م)، بعد استقالة حكومة عبد الله غول.

أردوغان الذي أعلن قبل تصويت 28 ذي الحجة 1423هـ (1 مارس 2003م)، وقبل أن يتولى أي منصب في الدولة، بأنه من المصلحة الوطنية الاستجابة بشكل إيجابي لطلب الولايات المتحدة بنشر قوات في تركيا، نجح بعد توليه رئاسة الحكومة في تركيا من إبرام اتفاقات بديلة مع الولايات المتحدة بشأن غزو العراق، حيث لم تصبح أمريكا بحاجة لفتح جبهة شمالية ضد العراق، وتريد فقط فتح تركيا مجالها الجوي للطائرات الأمريكية، لأنها الطريق الأسرع من والى العراق.

تصويت البرلمان التركي تحت حكومة أردوغان على فتح الأجواء التركية للقوات الأمريكية

ففي 16 محرم 1424هـ (19 مارس 2003م)، صوَّت البرلمان التركي بأغلبية 332 مقابل 202، مع امتناع عضو واحد، بجواز الولايات المتحدة الأمريكية استعمال 11 ممرًا جويًا تركيًا لمدة ستة أشهر، واشترط البرلمانيون أن يُسمح لتركيا مقابل ذلك نشر قواتها في الشمال التركي، لتمنع استغلال الأكراد انهيار النظام العراقي لإعلان دولة مستقلة. رفضت الإدارة الأمريكية شرط ربط فتج الأجواء التركية للقوات الأمريكية بنشر قوات تركية داخل العراق. خضعت تركيا أخيرا لإرادة أمريكا، ففي 18 محرم 1424هـ (21 مارس 2003م)، فتحت رسميا أجوائها الجوية دون شروط للولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة البريطانية.

استخدمت أمريكا المجال الجوي التركي لقصف العراق بصواريخ “توماهوك”، وقاذفات البحرية الأمريكية من طراز “بي 2″، ولنقل المظليين جوا وقفزهم في شمال العراق. خلال استعمال أمريكا للمجال الجوي التركي، سقط ثلاثة من صواريخ “توماهوك” على الأراضي التركية.

وفي أوائل صفر 1424هـ (أبريل 2003م)، سمحت تركيا لـ 204 عربة “همفي” أمريكية بالعبور إلى العراق.

كما استُعملت الأراضي التركية لتزويد القوات الأمريكية في شمال العراق بما تحتاجه من غذاء ووقود وغيرها من المواد غير القتالية.

مقابل هذا التعاون التركي مع القوات الأمريكية في غزوها للعراق، توعدت أمريكا بمنح تركيا مليار دولار لمساعدة الاقتصاد التركي للتعامل مع العواقب الاقتصادية للحرب، تُمنح تحت شروط يحددها الرئيس الأمريكي، من بينها تعديلات في السياسة المالية والاقتصادية التركية، وتعاون تركيا في العمليات العسكرية الأمريكية ضد العراق، وعدم نشر تركيا أ ي جنود لها في الشمال التركي إلا بموافقة أمريكا. والمساعدة بقيمة مليار دولار، حسب الشروط الأمريكية، يمكن لتركيا توظيفها كضمان للحصول على 8.5 مليار دولار من القروض. أي ما يسمى “مساعدات مالية” أو “مساعدات اقتصادية”، إنما نسبتها الأكبر تُمنح كقروض بشروط، وحتى تلك القروض المشروطة هي في الغالب مجرد إعادة جدولة قروض.

«اقرأ أيضا: تركيا مسمار جحا الأمريكي: ليبيا نموذجا»

الدوافع الحقيقة لتحفظ تركيا في البداية على غزو العراق

تحفظات تركيا، قبل وبعد تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم، على المشاركة في غزو العراق، كانت لأسباب قومية ذاتية، لا علاقة لها بمصالح العراق، ناهيك عن علاقتها بأي دوافع إسلامية.

فتركيا كانت من بين الدول الأكثر تضررا اقتصاديا من حرب الخليج الثانية لسنة 1411هـ (1991م) وما ترتب عليها من حصار على العراق، حيث كانت التجارة مع العراق تشكل النسبة الأكبر للعلاقات التجارية التركية، وأدت الحرب ضد العراق والحصار الى خسارة مالية لتركيا تتراوح ما بين 30 و100 مليار دولار، لم تعوضها فيها أمريكا وأوروبا.

كما أن الجيش التركي كان هاجسه الأكبر أن يترتب عن إسقاط النظام العراقي نشأة كيان مستقل للأكراد، فذلك سيحمس أكراد تركيا على طلب الاستقلال أيضا والانضمام للدولة الكردية الناشئة في العراق.

ومن المخاوف الأخرى التي كانت لدى تركيا، هو تدفق موجات جديدة كبيرة من النازحين الى تركيا.

فكانت تركيا تتفاوض مع أمريكا للحصول على ضمانات ألا يترتب على غزو العراق نشأة كيان مستقل للأكراد، لذلك طلبت بتمركز جنود لها في الشمال العراقي كمراقبين. كما أرادت تركيا مساعدات مالية تغطي الخسائر الاقتصادية المترتبة عن الحرب ونزوح اللاجئين إليها.

في الأخير، أزاحت تركيا تلك التحفظات، وساهمت في الغزو الأمريكي للعراق، بل وندمت على تأخرها في الاستجابة للمطالب الأمريكية.

وكانت مساهمة تركيا في غزو أمريكا للعراق بداية الصعود السياسي لأردوغان، وانطلاق الطفرة الاقتصادية في تركيا، إذ فتحت أمريكا وأوروبا أسواقها للبضائع التركية، وتدفقت الديون والأموال الغربية لدعم مشاريع في تركيا.

مصادر



 

جميع الآراء الواردة بهذا المقال تعبر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

Print Friendly, PDF & Email
اظهر المزيد

د. هشام البواب

الدكتور هشام البواب، ناقد ومحلل سياسي واجتماعي مستقل . مقالاته تشمل موضوعات سياسية واجتماعية وفقهية وعلوم تجريبية :::::: بعض كتابات الدكتور هشام البواب في الرابط التالي: https://atanwir.com/منشورات-الدكتور-هشام-البواب ::::::: hicbou1@mailfence.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى