الله سماهم نصارى وليس “مسيحيين” وسمى دينهم النصرانية وليس “المسيحية”

من بين الدوافع لكتابة هذا المقال، مفاجئتي حين عمد موقع «ساسة بوست» لاستبدال مصطلح «مسيحي» بـ «نصراني» في أحد مقالاتي، وصَدْمَتي لكيفية تسويغه لتلك الخطوة، تسويغٌ يكاد يُجَرِّم مسميات سمَّاها الله ورسوله، وقطعا يمارس حجرا فكريا على المسلمين، بحيث يجعل للنصارى هيمنة عليهم، يحددون ما يجوز للمسلمين أو لا يجوز لهم استعماله من مصطلحات، حتى تلك التي وردت في القرآن والسُّنة. فقد برر موقع «ساسة بوست» فعله بقوله: [كلمة «نصراني» غير مناسبة هنا، لأننا لا نتناولها في السياق الديني بل الصحفي، وفي هذا السياق من الصائب استخدام «مسيحي» بدلًا من «نصراني»، التي تعد كلمة تجانب المهنية، وتتخذ منظورًا واحدًا في الإشارة إلى ديانة لا يسمي معتنقيها أنفسهم بهذا الاسم]. … وأضاف الموقع قائلا: [هذا المصطلح (أي «نصراني») لم يصبح من المتعارف استخدامه في هذه الفترة سواء في الجانب الصحفي أو البحثي أيضًا لكون دلالاته مختلفة] (انتهى الاقتباس).
والدافع الثاني لكتابة هذا المقال، هو ملاحظتي أن كثيرا من المسلمين، وعلى رأسهم كثير من المشايخ، يستعملون أيضا عبارتي «مسيحي» و«المسيحية» بـدلا من «نصراني» و«النصرانية»، مع أنهما مصطلحين يخالفان القرآن والسُّنة، وذلك بسبب انهزامهم أمام النصارى وأوليائهم، وسعيا لإرضائهم وذلك بتسميتهم بالاسم الذي يريدون أن ينادون به. وهناك من المسلمين من يستعمل عبارتي «مسيحي» و«المسيحية» تقليدا فقط للذي تعودوا سماعه، وجهلا بمسميات القرآن والسُّنة.
مصطلح «مسيحي» مستحدث لا يصح، فالله الذي بعث موسى وعيسى وأنزل التوراة والإنجيل، هو الذي سمى أتباع موسى «يهودًا» وأتباع عيسى «نصارى»، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ}، {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ مِن هذِه الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ ولا نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ ولَمْ يُؤْمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به إلَّا كانَ مِن أصْحابِ النَّار» (صحيح مسلم). كما أنه سبحانه هو الذي سمى أتباع محمد «مسلمين» {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}. فنحن لا نقول على المسلم أنه «محمدي» لأنه آمن بمحمد، ولا نقول أيضا على النصراني «مسيحي» لأنه آمن بالمسيح (بغض النظر عن صحة الإيمان).
ولن تجد في القرآن والسّنة ولو مرة واحدة عبارة «مسيحي»، مع كثرة تناولهما (أي القرآن والسّنة) لأهل الكتاب وعلى رأسهم النصارى. فهل استعمال القرآن والسّنة لمصطلح «نصارى» حصريا كان صدفة أو عبثا، حتى يجوز لنا تجاوز هذا المصطلح الرباني واستبداله بغيره من المسميات التي وضعها البشر؟ {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنَزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (سورة النجم).
ومصطلح «نصراني» موجود في المخطوطات اليونانية القديمة (السينائية والفاتيكانية والإسكندرانية). وفي سفر أعمال الرسل الموجود بين أيدينا اليوم ورد عن بولس (5 : 24): [وجدنا هذا الرجل آفة من الآفات، يثير الفتن بين اليهود كافة في العالم أجمع، وأحد أئمة شيعة النصارى] (انتهى الاقتباس).
والخلاف الوحيد الذي نعلمه، إن جاز اعتباره اختلافا، منحصر بين غالبية ساحقة تعتبر مصطلح «نصارى» هي العبارة الصحيحة دينيا وعلميا وتاريخيا من جهة، وأقلية قليلة من نصارى عرب – من جهة أخرى – تعتبر اسم «نصارى» غير لائق لدواعي وأوهام شخصية، لا علاقة لها البتة بالعلم ولا المعرفة ولا الحقيقة. بل هناك اختلاف بين نصارى العرب أنفسهم على توصيف أنفسهم بأنهم «نصارى» أو «مسيحيين»، فهناك من نصارى العرب من يسمون أنفسهم «نصارى»، وفي الرابط التالي أحد الأدلة على ذلك من لسان رئيس أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية في مصر، السيد شنودة، حيث يرى أن نصراني عنده تساوي مسيحي، ولم يستقبح عبارة نصراني ولا هاج ضدها:
ثم إن مصطلح «نصراني» ليس شتيمة. فأصل مصطلح «نصارى» منسوب إما إلى بلدة الناصرة في فلسطين التي وُلد فيها المسيح عليه السلام، أو إشارة إلى نُصرتهم لعيسى عليه السلام، ويشهد لذلك قوله تعالى: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ}.
فالنصراني العربي حر إن أراد استعمال عبارة «مسيحي» في كتاباته وحديثه ويصف نفسه بأنه «مسيحي» إن شاء، لكن المسلم حر أيضا ومن منطلق عقيدته الشخصية ألا يستعمل إلا عبارة «نصراني» في حديثه وكتاباته. تماما كما أنه لا يجوز للنصارى إلزام المسلمين بالقول إن المسيح ابن الله، ولا المسلمون يجوز لهم أن يلزموا النصارى بالقول إن المسيح مجرد بشر ورسول. فلا يجوز أن تفرض جهة الوصاية الفكرية والدينية على جهة أخرى.
فعلى المسلمين الوعي على أهمية ضبط المصطلحات، وعلى رأسها المصطلحات الشرعية التي وردت في القرآن أو السّنة، والعناية بها، والتمسك بها، وعدم العزوف عنها سواء عن جهل أو تقصير، أو عن خوف وسعيا لإرضاء الغير، فاعلم أنه {لَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} كما قال الله.
استعمال مصطلحات مستحدثة بدلا من المصطلحات الشرعية، يجعل المسميات تفقد الصلة بالوحي، تفقد الصلة بالحكم الشرعي، تفقد ميزان الإسلام لها، تفقد ارتباطها واتصالها بأحداث التاريخ، ومن ثم يفقد المسلم الموقف الصحيح الذي يجب عليه اتخاذه تجاه تلك المسميات، فيهون عليه مخالفة الشرع فيها. فمثلا تم تهوين عظم جرم الربا والخمر بتسميتهما على التوالي فائدة ومشروبات روحانية، وقس على ذلك العديد من التحريف المقصود لأسماء المسميات لتسويغها لدى عامة المسلمين وفصلها عن عقيدتهم ودينهم ومقياسهم الشرعي. فاستعمال المسلمين لعبارة «مسيحي» و«الديانة المسيحية»، تنتج عنه بعد فترة من الزمن أجيال لا تربط من يسمون «مسيحيين» بـ«النصارى» الذين ذكرهم الله في القرآن، فتفقد في نظرهم كل الأحكام الشرعية المتعلقة بالنصارى «صلاحيتها» لأنها تتحدث عن قوم غير الذين يسمون في عصرهم «مسيحيين».
«اقرأ أيضا: لماذا يجب التصدي لمن يترحم على الميت الكافر؟»