حدث الساعةملف مقاطعة فرنسا

كيف يرد المسلم على تهجم فرنسا على نبيه ودينه

من الجيل الأول: كيف تحول الغضب لقوة إيجابية غيرت مسار حياة عم رسول الله حمزة بن عبد المطلب

اعْتَرَضَ يوما أَبو جَهْلٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الصَّفَا، فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ، وَنَالَ مِنْهُ مَا يَكْرَهُ مِنَ الْعَيْبِ لِدِينِهِ، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عم الرسول، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكًا عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، فغضب لما أصاب ابن أخيه محمدا، فَأَقْبَلَ نَحْوَ أبا جهل حَتَّى إِذَا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ، رَفَعَ الْقَوْسَ فَضَرَبَهُ بِهَا، ثُمَّ قَالَ: أَتَشْتِمُهُ وَأَنَا عَلَى دِينِهِ، أَقُولُ مَا يَقُولُ؟ فَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيَّ إنْ اسْتَطَعْت. َقَامَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إلَى حَمْزَةَ لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ؛ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ (كنية حَمْزَة بْن عَبْدِ الْمُطَّلِب)، فَإِنِّي وَاَللَّهِ قَدْ سَبَبْتُ ابْنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا (سيرة ابن هشام).

هكذا أسلم حمزة بن عبد المطلب، وكان ذلك في السنة الثانية لبعثة الرسول، فلازم نصرته وهاجر معه، وقُتل يوم أُحُد شهيداً، ووصفه الرسول بأنه سيد الشهداء رضي الله عنه.

الشاهد هنا أن غضب حَمْزَة بْن عَبْدِ الْمُطَّلِب للأذى الذي أصاب الرسول، وحميته لابن عمه محمد، تَوَلَّد عنها تحول وعمل إيجابي غَيَّر مجرى حياته جملة وتفصيلا، حيث أعلن إسلامه أمام الملأ، تحديا لساداتها ونصرة لابن عمه، فحَسُنَ إسلامه، وصاحب الرسول وهاجر معه وأطاعه فيما كان يأمر به وينهى عنه، فنجى من براثين الجاهلية في الدنيا، ونال رضوان الله ورسوله، وفاز بالجنة في الآخرة.

من الجيل المُعاصر: كيف وَلَّدَتْ عداوة الغرب للإسلام قوة إيجابية لدى سيد قطب وغيَّرت مسار حياته وأَثْرَت عطائه الفكري  

من سيد الشهداء حمزة، الذي استشهد في السنة الثالثة للهجرة النبوية، الى شهيد آخر استشهد سنة 1386هـ (1966م)، ألا وهو سيد قطب رحمه الله.

سيد قطب الذي اشتهر بمؤلفاته الإسلامية التي ساهمت في إحداث ثورة فكرية في العالم الإسلامي، وأعادت إحياء فكرة أن الإسلام طريقة عيش ونظام حكم شامل في الحياة وليس عبادات فحسب، لم تكن أفكاره في المراحل الأولى من حياته إسلامية محضة، مبلورة واضحة قوية، كما كان عليه حاله في أواخر عمره.

سيد قطب مر بعدة مراحل في حياته، أولها مرحلة الضياع الشامل، كما وصفها الدكتور صلاح الخالدي في كتابه «سيد قطب من الميلاد للاستشهاد». بدأت معه مرحلة الضياع وهو في الدراسة الثانوية، وبلغت أوجها في آخر سنتين من دراسته الجامعية، واستمرت في أعلى درجاتها في السنتين الأوليين من حياته الوظيفية.

ضياع سيد قطب لم يكن ضياعا سلوكيا ولكن ضياعا فكريا، فقد وصفها الدكتور صلاح الخالدي بقوله: [رحلة ضياع سيد هي الفترة الزمنية التي عاشها وهو جاهل بنفسه وهدفه ورسالته ووظيفته، وهو جاهل بسر الحياة وطبيعة الكون والصلة بينه وبين الحياة والكون! رحلة ضياع سيد هي الفترة الزمنية التي عاشها وهو قلق حائر بائس تعيس، لم يختر اختيارًا مقنعًا ولا مقبولًا! رحلة ضياع سيد هي المرحلة التي تلقى فيها المبادئ والأفكار والتصورات والفلسفات الأوربية والغربية المادية الجاهلية عن الكون والحياة والإنسان، فأوجدت عنده تشويشًا وغبشًا وظنًّا وشكًّا وحيرةً وقَلَقًا حيث تعارضت مع ما عنده من مقررات إسلامية، تلقاها منذ طفولته وصباه وفي دراساته المختلفة. رحلة الضياع عنده هي تلك المرحلة التي وقع فيها صراع بين التصورات الإسلامية التي تلقاها من قَبْل والتصورات المادية الغربية التي تلقاها في شبابه، وكلٌّ منها تدعوه ليعتنقها ويدين بها، فوقف بين الدعوتين حائرًا قلقًا مترددًا، أو قُلْ: وقف بينهما ضائعًا شاردًا تائهًا!!] (انتهى الاقتباس).

ومما يشهد على مرحلة التيه والضياع التي عاشها سيد قطب، قصائده الشعرية التي نظمها في ديوان «الشاطئ المجهول» والذي نشره سنة 1353هـ (1935م)، فقد نَظَم مثلا:

تطيفُ بنفسي وهي وسنانةٌ سكرى ::::::::::: هواتفُ في الأعماق ساريةٌ تَتْرى

هواتفُ قد حُجِّبْنَ يَسرينَ خِفيةً ::::::::::: هوامسُ لم يكشفنَ في لحظة سِتْرا

ويَعْمُرنَ من نفسي المجاهلَ والدجى ::::::::::: ويجنبنَ من نفسي المعالمَ والجهرا

وفيهنّ من يُوحينَ للنفس بالرضا ::::::::::: وفيهنَّ من يُلهمنَها السُّخطَ والنُّكرا

ومن بين هاتيك الهواتفِ ما اسمهُ ::::::::::: حنينٌ، ومنهنّ التشوُّقُ والذكرى

أَهبْنَ بنفسي في خُفوتٍ وروعةٍ ::::::::::: وسرنَ بهمس وهي مأخوذةٌ سكرى

سواحرُ تقفوهنَّ نفسي، ولا ترى ::::::::::: من الأمر إلا ما أردنَ لها أمرا

إلى الشاطىء المجهولِ، والعالم الذي ::::::::::: حننتُ لمرآه، إلى الضفّة الأُخرى

إلى حيث لا تدري، إلى حيث لا ترى ::::::::::: معالمَ للأزمان والكونِ تُسْتَقْرا

في خضم تلاطم أمواج التخبط، طرأت أحداث ساهمت في تحول فكر سيد قطب ليتجه نحو الإسلام المحض. من بين تلك الأحداث المُؤثرة، رحلته الى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1368هـ (1948م)، حيث أرسلته وزارة المعارف المصرية لدراسة المنهج الأمريكي في التعليم.

بدأت أول الأحداث خلال رحلة سيد قطب على متن باخرة تنقله من الإسكندرية الى نيويورك. فقد ذكر سيد ضمن سياق تفسيره لآيات من سورة يونس في مصنفه «في ظلال القرآن»: [أذكر حادثاً وقع لي وكان عليه معي شهود ستة، وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاماً. كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك؛ من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم. وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة والله يعلم أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة، وحاول أن يزاول تبشيره معنا. وقد يسر لنا قائد السفينة – وكان إنجليزياً – أن نقيم صلاتنا، وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمها – وكلهم نوبيون مسلمون (النوبيون نسبة لمنطقة النوبة الممتدة بين شمال السودان وجنوب مصر) – أن يصلي منهم معنا من لا يكون في «الخدمة» وقت الصلاة، وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً، إذ كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة. وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة؛ والركاب الأجانب – معظمهم – متحلقون يرقبون صلاتنا. وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح «القُدَّاس» فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا] (انتهى الاقتباس).

الشاهد هنا، أن سيد قطب لما رأى مبشرا نصرانيا يحاول تنصير المسلمين ومن بينهم سيد نفسه، أثار ذلك حماسته للإسلام، فقام بخطوة عملية وعمل إيجابي كرد قوي على المبشر، ونصرة للدعوة للإسلام على سواها من الأديان الباطلة في نظره؛ فقرر إظهار شعائر الإسلام لكل ركاب السفينة بإقامة صلاة الجماعة والجمعة، رغم أن عدد المسلمين بين ركاب السفينة كان قليلا جدا ويشكلون أقلية.

والحدث الثاني خلال رحلة سيد قطب للولايات المتحدة الأمريكية، والذي كان له تأثيرا على تحول اهتماماته في الحياة، وحماسته للانخراط القوي في الدعوة للإسلام، يمكن استقرائه مما ذكر سيد قطب – فيما يُنسب إليه – في مذكرات «لماذا أعدموني؟»: [لم أكن أعرف إلا القليل عن الإخوان المسلمين، إلى أن سافرت إلى أمريكا في ربيع 1948م (1368هـ) في بعثة لوزارة المعارف (كما كان اسمها في ذلك الحين)، وقد قُتل الشهيد حسن البنا وأنا هناك في عام 1949م (1369هـ)، ولقد لفت نظري بشدة ما أبدتها الصحف الأمريكية وكذلك الإنجليزية التي كانت تصل إلى أمريكا من اهتمام بالغ بالإخوان ومن شماتة وراحة واضحة في حل جماعتهم وضربها وفي قتل مرشدها، ومن حديث عن خطر هذه الجماعة على مصالح الغرب في المنطقة وعلى ثقافة الغرب وحضارته فيها، وصدرت كتب بهذا المعنى سنة 1950م أذكر منها كتاباً لـ”جیمس ھیوارث دن” بعنوان: “التيارات السياسية والدينية في مصر الحديثة”. .. كل هذا لفت نظري إلى أهمية هذه الجماعة عند الصهيونية والاستعمار الغربي]. .. وأضاف سيد قائلا أنه بعد عودته من رحلته الى الولايات المتحدة الأمريكية بداية سنة 1370هـ (نهاية 1950م): [كانت علاقاتي بجماعة الإخوان تتوثق باعتبارها في نظري حقلاً صالحاً للعمل للإسلام على نطاق واسع في المنطقة كلها بحركة إحياء وبعث شاملة، وهي الحركة التي ليس لها في نظري بديل يكافئها للوقوف في وجه المخططات الصهيونية والصليبية الاستعمارية التي كنت قد عرفت عنها الكثير وبخاصة في فترة وجودي في أمريكا. وكانت نتيجة هذه الظروف مجتمعة انضمامي بالفعل سنة 1953م إلى جماعة الإخوان المسلمين] (انتهى الاقتباس).

الشاهد هنا، أن معايشة سيد قطب لشماتة الصحافة الغربية بوفاة المؤسس والمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، وفرحتهم بحل النظام المصري للجماعة، ولموقفهم العدائي للإسلام ولكل من تُشَمّ فيه رائحة العمل لانبعاث إسلامي جديد ولطرد الاستعمار العقائدي والثقافي والسياسي الغربي من بلاد المسلمين، حرك فيه (أي في سيد قطب) الغيرة على الإسلام، والحماسة للرد على تلك الحضارة الغربية التي تدعي الأستاذية على العالم؛ حرك فيه الحماس للمعرفة أكثر عن الإسلام الذي يحاربه الغرب؛ فانضم للعمل الدعوي ابتداء مع جماعة الإخوان، وتعمق في دراسة كتب التفسير والحديث والفقه، وتعرف على أفكار الجماعات الإسلامية التي تدعوا للإسلام، فما لبث أن بدأت تظهر ثمار جهوده في مؤلفاته، حيث تحولت من كتابات أدبية إلى كتابات فكرية تنهل من معين القرآن والسُّنَّة النبوية. فكانت أول مؤلفاته بعد رجوعه من أمريكا، كتاب «معركة الإسلام والرأسمالية»، ثم تلاها عدة كُتُب على مدى أكثر من عشر سنوات: «السلام العالمي والإسلام»؛ «في ظلال القرآن»؛ «دراسات إسلامية»؛ «المستقبل لهذا الدين»؛ «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»؛ «الإسلام ومشكلات الحضارة». وكان آخر مؤلفاته «معالم في الطريق» (وإن كان عبارة عن اقتباسات من كتابه «في ظلال القرآن»، مع إضافات وتنقيحات)، نُشر سنة 1384هـ (1964م)، والذي أكد فيه سيد قطب فساد الحضارة الغربية وفشلها، ولخص مفهوم الحاكمية لله وأنها المخرج الوحيد للبشرية من الظلم والتعاسة التي جلبتها عليهم أنظمة الحكم البشرية كالرأسمالية والاشتراكية، وطَرَح المعالم اللازمة لاستعادة حاكمية الإسلام.

بالقراءة في مقدمة كتاب «معالم في الطريق»، يشعر القارئ وكأن سيد قطب يتحدث من قبره رادًّا على غلاة العلمانية اليوم، كالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومن على شاكلته، ليعلمهم ما هي “القيم” وما هي حقيقة حضارتهم الغربية ونظامهم الوضعي! ويتحدث (أي سيد قطب) للمسلمين لِيُذَكِّرهم بمقامهم ووظيفتهم في هذا العالم ومسؤوليتهم تجاه البشرية! .. يقول سيد قطب: [تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية .. لا بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها، فهذا عَرَضٌ للمرض وليس هو المرض. ولكن سبب إفلاسها في عالم “القيم” التي يمكن أن تنمو الحياة الإنسانية في ظلالها نموًا سليمًا وتترقى ترقيًا صحيحًا. وهذا واضح كل الوضوح في العالم الغربي، الذي لم يعد لديه ما يعطيه للبشرية من “القيم”، بل الذي لم يعد لديه ما يُقنع ضميره باستحقاقه للوجود، بعدما انتهت الديمقراطية فيه إلى ما يشبه الإفلاس. …..

ولابد من قيادة للبشرية جديدة!

إن قيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال، لا لأن الحضارة الغربية قد أفلست ماديًا أو ضعفت من ناحية القوة الاقتصادية والعسكرية، ولكن لأن النظام الغربي قد انتهى دوره لأنه لم يعد يملك رصيدا من “القيم” يسمح له بالقيادة.

لابد من قيادة تملك إبقاء وتنمية الحضارة المادية التي وصلت إليها البشرية، عن طريق العبقرية الأوروبية في الإبداع المادي، وتزود البشرية بقيم جديدة جدَّة كاملة – بالقياس إلى ما عرفته البشرية – وبمنهج أصيل وإيجابي وواقعي في الوقت ذاته. … والإسلام – وحده – هو الذي يملك تلك القيم، وهذا المنهج.

لقد أدَّت النهضة العلمية دورها. هذا هو الدور الذي بدأت مطالعه مع عصر النهضة في القرن السادس عشر الميلادي، ووصلت إلى ذروتها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولم تعد تملك رصيدًا جديدًا.

كذلك أدَّت “الوطنية” و”القومية” التي برزت في تلك الفترة، والتجمعات الإقليمية عامة دورها خلال هذه القرون، ولم تعد تملك هي الأخرى رصيدًا جديدًا.

ولقد جاء دور “الإسلام” ودور “الأمة” في أشد الساعات حرجًا وحيرة واضطرابًا. جاء دور الإسلام الذي لا يتنكَّر للإبداع المادي في الأرض، لأنه يعدُّه من وظيفة الإنسان الأولى منذ أن عهد الله إليه بالخلافة في الأرض، ويعتبره – تحت شروط خاصة – عبادة لله، وتحقيقًا لغاية الوجود الإنساني.

وجاء دور “الأمة المسلمة” لتحقق ما أراده الله بإخراجها للناس: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}؛ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.

ولكن الإسلام لا يملك أن يؤدي دوره إلا أن يتمثل في مجتمع، أي أن يتمثل في أمة. فالبشرية لا تستمع – وبخاصة في هذا الزمان – إلى عقيدة مجردة، لا ترى مصداقها الواقعي في حياة مشهودة. و”وجود” الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة. فالأمة المسلمة ليست “أرضًا” كان يعيش فيها الإسلام. وليست “قومًا” كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي. إنما “الأمة المسلمة” جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامي. وهذه الأمة – بهذه المواصفات ـ قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعًا.

ولابد من ” إعادة ” وجود هذه “الأمة” لكي يؤدي الإسلام دوره المرتقب في قيادة البشرية مرة أخرى. لابد من “بعث” لتلك الأمة التي واراها ركام الأجيال وركام التصورات، وركام الأوضاع، وركام الأنظمة، التي لا صلة لها بالإسلام، ولا بالمنهج الإسلامي. وإن كانت ما تزال تزعم أنها قائمة فيما يسمى “العالم الإسلامي”!!!

لابد إذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية – غير الإبداع المادي – ولن يكون هذا المؤهل سوى “العقيدة” و”المنهج” الذي يسمح للبشرية أن تحتفظ بنجاح العبقرية المادية، تحت إشراف تصور آخر يلبِّي حاجة الفطرة كما يلبيّها الإبداع المادي، وأن تتمثل العقيدة والمنهج في تجمع إنساني، أي في مجتمع مسلم.

إنْ العالم يعيش اليوم كله في “جاهلية” من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها. جاهلية لا تخفف منها شيئًا هذه التيسيرات المادية الهائلة، وهذا الإبداع المادي الفائق!

هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية. وهي الحاكمية. إنها تسند الحاكمية إلى البشر، فتجعل بعضهم لبعض أربابا، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن به الله. فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان الله اعتداء على عباده. … وما ظلم “الأفراد” والشعوب بسيطرة رأس المال والاستعمار في النظم “الرأسمالية” إلا أثرًا من آثار الاعتداء على سلطان الله، وإنكار الكرامة التي قررها الله للإنسان! وفي هذا يتفرد المنهج الإسلامي. فالناس في كل نظام غير النظام الإسلامي، يعبد بعضهم بعضًا – في صورة من الصور – وفي المنهج الإسلامي وحده يتحرر الناس جميعًا من عبادة بعضهم البعض، بعبادة الله وحده، والتلقي من الله وحده، والخضوع لله وحده.

وهذا هو مفترق الطريق. وهذا كذلك هو التصور الجديد الذي نملك إعطاءه للبشرية – هو وسائر ما يترتب عليه من آثار عميقة في الحياة البشرية الواقعية – وهذا هو الرصيد الذي لا تملكه البشرية، لأنه ليس من “منتجات” الحضارة الغربية، وليس من منتجات العبقرية الأوروبية!

إننا – دون شك – نملك شيئا جديدًا جدَّة كاملة. شيئاً لا تعرفه البشرية، ولا تملك هي أن “تنتجه”! ولكن هذا الجديد، لابد أن يتمثل – كما قلنا – في واقع عملي. لابد أن تعيش به أمة. وهذا يقتضي عملية “بعث” في الرقعة الإسلامية. هذا البعث الذي يتبعه – على مسافة ما بعيدة أو قريبة – تسلم قيادة البشرية] (انتهى الاقتباس من كتاب معالم في الطريق).

كان هذا نموذجين للتحول الإيجابي والعملي الذي أحدثته عداوة الكفار للإسلام في أنفسيهما؛ فما التغير الإيجابي الذي أحدثه غضبك على الإساءات المتتالية لمحمد صلى الله عليه وسلم؟

كيف تُحَوِّل غضبك لقوة إيجابية تغير مسار حياتك الشخصية نحو الأفضل في الدنيا والآخرة

الغضب على الإساءة للرسول من قِبَل الكفار، لا يجوز أن يتحول لطاقة هدامة، طاقة تشبع المشاعر الآنية دون أن تُحدِث أي تغيير ولا نصر. فلا يجوز أن يدفعك غضبك لقتل من أساء للرسول. وهذا لا يعني من ناحية أخرى أن تُزَكِّي فعلته وتقبل إساءاته بحجة حرية التعبير. بل يجب إنكار فعلته وإظهار السخط عليها. لكن عَبِّر عن سخطك على من يسيء للرسول ولدينك بطرق سلمية، مثلا بالالتجاء للمحاكم لمقاضاة المسيء. وكذلك من بين مظاهر السخط، ألَّا تبتسم في وجه من يستهزئ بدينك ونبيك، ولا تجالسه، فقد علَّمَنا الله كيف نتعامل مع من يستهزئ بالإسلام، حيث قال: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (سورة النساء). علِّموا أولادكم أنه إذا رأوا أو سمعوا استهزاءً بالإسلام أو بالرسول، كعرض رسوم مسيئة للرسول في حصة الدرس في المدرسة، أن يقوموا على الفور ويغادروا القسم. ثم يتقدم الآباء لاحقا باحتجاج لدى الإدارة. يجب تقديم عارضة الاحتجاج حتى لو ادعت المدرسة أو المؤسسة أن ذلك من حرية الرأي. 

فالغضب يجب أن يكون منضبطا بالشرع، منضبطا حسب الأحكام الذي فرضها الذي نغضب من أجله.

ثانيا، لا شك أن حب الرسول من الإيمان، وأمْرٌ مطلوب من المسلم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لما كان في أحد الأيام الرسولُ آخِذًا بِيَدِ عُمَر بْن الخَطَّاب، فقال له عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي؛ رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: «لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» (أي لا يكتمل الأمر إلا بأن يكون الرسول أحب للمسلم من كل ما سواه)، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي؛ فقالَ الرسول: «الآنَ يَا عُمَرُ» (صحيح البخاري). وقال الرسول: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (صحيح مسلم). وقال الله سبحانه: {النَّبِيُّ أولى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (سورة الأحزاب).

ولا شك أن الغضب على إساءاتٍ للرسول، علامة من علامات حبه، لكن الغضب لوحده لا يغني المسلم عن المقتضيات الأخرى الكثيرة لحب الرسول، ومن ثم يجب معرفة كيف نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الله قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (سورة آل عمران). فحب الله والرسول مقتضاه اتباع الرسول فيما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، لذلك جاءت الآية التالية بعد طلب اتباع الرسول {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول} لتؤكد أن اتباع الرسول يكون بطاعة الله والرسول.

فالغضب على الإساءة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، يجب أن يخلق قوة إيجابية لدى المسلم، قوة تُنَمِّي حب الرسول، حب حقيقي يُمَكِّن المسلم من نصرة الرسول والإسلام فعلا. فالحب الحقيقي للرسول ونصرته تكون باتباع ما جاء به من حلال وحرام، وتعظيم شريعته. إلا أن القدرة على اتباعه صلى الله عليه وسلم، تقتضي أولا معرفة الحلال والحرام، ومن ثم، كان واجبا على المسلم التفقه في الدين.

فالغيرة على الإسلام، والغضب من أجله، يجب أن يدفع المسلم لإعادة التفكير في حياته الشخصية أولا، ليستطيع بعد ذلك نفع نفسه ومحيطه.

فانتهاك الكافر لِحُرمة الرسول بالسخرية منه عن طريق رسومات، لا يساوي شيئا أمام انتهاك المسلم نفسه لحرمات الله ورسوله. فإن غَضِب المسلم لانتهاك الكافر لِحُرُمات الله والرسول، فغضبه يجب أن يكون أشد أشواطا لانتهاكه هو كمسلم للحلال والحرام الذي فرضه الله.

فمن كان يرتكب كبائر، كالزنا والتعامل بالربا وشرب الخمر والنميمة وأكل مال اليتيم ولعب القمار الخ، فليتب عنها، ويستغفر الله.

ومن كان لا يصلى الصلوات المفروضة، فليلتزم بإقامتها. ومن كان لا يؤدي الصلاة في وقتها فليجتهد لفعل ذلك. ومن كان لا يقوم لصلاة الفجر، فليوطد نفسه وينظم وقته لأدائها في وقتها. ومن كان لا يصوم رمضان، فليبدأ بأداء فريضة الصيام.

ومن كان يوالي حكام المسلمين الطغاة الذين لا يحكمون بما أنزل الله ويزينهم في أعين الناس ويجادل عنهم ويبرر لهم، فليتب الى الله ويتبرأ من كل حاكم لا يعظم شريعة الله، ولا يحكم بما أنزل الله، فإنه لا يجتمع في قلب إنسان حب الطغاة والظلمة من جهة، وحب الله ورسوله من جهة أخرى. فالله قال {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (سورة هود)؛ وقال سبحانه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة المجادلة). فحكام المسلمين أشد حربا على الإسلام من الكفار؛ والرسوم المسيئة للرسول لا تساوي شيئا أمام إساءة حكام المسلمين للرسول، واستهزائهم بشريعته. وهم، أي حكام المسلمين، من جَرَّأ دول الغرب وزعمائها، كالرئيس الفرنسي ماكرون، على الإسلام والمسلمين؛ وهم (أي حكام المسلمين) من شرَّد المسلمين وجعلوهم يبحثون عن الرزق والأمن والكرامة في دول الغرب.

اقرأ أيضا: «وقفة مع حادثة سرقة علانية جماعية للأضاحي في سوق شعبي بالمغرب»



 

جميع الآراء الواردة بهذا المقال تعبر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

Print Friendly, PDF & Email
اظهر المزيد

د. هشام البواب

الدكتور هشام البواب، ناقد ومحلل سياسي واجتماعي مستقل . مقالاته تشمل موضوعات سياسية واجتماعية وفقهية وعلوم تجريبية :::::: بعض كتابات الدكتور هشام البواب في الرابط التالي: https://atanwir.com/منشورات-الدكتور-هشام-البواب ::::::: hicbou1@mailfence.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى