الجزيرة تسارع لإنقاذ فرنسا من حملة المقاطعة وتبييض وجه ماكرون ومنحه منصة لجلد المسلمين

لقاء الجزيرة مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فيه من الخبث ما تكاد السماوات يتفطرن منه وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا. فيكفي أنه جاء ليكسر حملة مقاطعة البضائع الفرنسية التي بدأت تؤلم الاقتصاد الفرنسي وتؤرق مضاجع الشركات الفرنسية.
لم تكن الجزيرة في لقاءها مع ماكرون حتى طرفا محايدا – مع أنه لا ينبغي لها ذلك –، بل كانت طرفا داعما لماكرون وفرنسا. الحوار طغى عليه التحدث عن الإرهاب وعلاقته بالإسلام والمسلمين، وتجاهل الحروب الإرهابية العلمانية التي مارسها الغرب ولازال يمارسها في العالم الإسلامي، وإرهاب الأنظمة الديكتاتورية في البلدان الإسلامية التي يدعمها الغرب، وتورط المخابرات الغربية ومخابرات أنظمته الوظيفية في البلدان الإسلامية في عدة “عمليات إرهابية” في مختلف بلدان العالم، يستغلها لخدمة مآرب الغرب.
وهل نسي المسلمون عرض فرنسا على المخلوع زين العابدين بن علي المساعدة لوأد الانتفاضة الشعبية ضد النظام التونسي التي انطلقت في شهر محرم 1432هـ (ديسمبر 2010م)؟ وهل ينسى المسلمون دعم فرنسا ودول الغرب عموما للمجرم الإرهابي، عبد الفتاح السيسي، الذي ذبَّح وأحرق الآلاف من الناس العُزّل في مصر، وأعدم العشرات في سجونه، وسجن عشرات الآلاف من الأبرياء؟ وهل نسي المسلمون قتل فرنسا لملايين المسلمين في المغرب والجزائر وتونس ومالي وغيرها من البلدان، وقطع رؤوس آلاف المسلمين، وعرض جماجمهم الى اليوم في المتحف الوطني الفرنسي للتاريخ الطبيعي؟ هل نسي المسلمون طرق التعذيب الوحشية التي مورست على مقاومي الاستعمار الفرنسي، وبَقْر الجنود الفرنسيين بطون المسلمات الحوامل قبل قتلهن واغتصاب النساء؟ هذا غيض من فيض من جرائم فرنسا وإرهابها، فرنسا التي يدعي رئيسها أنه لم يرى حتى الآن أي شخص أُعدِم باسم العلمانية الفرنسية! ..
فالحوار الذي أجرته الجزيرة مع الرئيس الفرنسي كان جد سطحي، يعيد نفس الأسطوانات السطحية الفارغة التي ملها كل عاقل.
الجزيرة لم تسعى ليتراجع ماكرون عن أي من مواقف فرنسا المتطرفة والعدوانية تجاه الإسلام والمسلمين، كإصرار ماكرون على حق نشر رسوم كاذبة مسيئة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وجارحة لمشاعر أكثر من مليار مسلم حول العالم، ولكن سعت الجزيرة لإنقاذ فرنسا من حملة المقاطعة ضدها.
فالجزيرة لم تطرح على ماكرون أسئلة محرجة، تبين من خلالها كذبه ونفاقه بخصوص حرية التعبير؛ وبخصوص كذبة التعايش والمساواة التي تحرم المسلمات من ممارسة حقهن حتى في مجرد لباس ما يوافق عقيدتهن؛ وبخصوص حقيقة الإسلام وعدله مقابل جور العلمانية وعنفها؛ ولم تعرض الجزيرة المذابح التي قام ويقوم بها الغرب، ومن بينه فرنسا، ضد المسلمين في عدة بقاع من العالم؛ ولم تتطرق الجزيرة مع ماكرون لنهب فرنسا لخيرات بلدان افريقية؛ ولا لازدواجية معايير الغرب وإعلامه في كيفية تعاملهم مع الجرائم حسب من اقترفها.
«اقرأ أيضا: ألم يحن الوقت لتقاطعوا اللغة الفرنسية؟»
أسئلة الجزيرة على ماكرون اختيرت بعناية لمنحه فرصة ليبرر التطرف العلماني تجاه الإسلام والمسلمين وليقنعهم بضرورة قبول الإساءة لهم ولنبيهم
فنوع الأسئلة التي طرحتها الجزيرة على ماكرون اختيرت بعناية لتمنحه فرصة ليبرر تطرفه تجاه الإسلام والمسلمين واحتقاره لهم، وليقنع المسلمين بعلمانيته المتطرفة العوراء الأُحادية التي لا تقر الحرية إلا عندما يتعلق الأمر بشتم المسلمين ودينهم، والإساءة لمحمد صلى الله عليه وسلم، أما مثلا ارتداء المسلمات للحجاب، فذلك ليس من الحرية الشخصية التي تضمنها العلمانية العوراء. فلم يعقب مذيع الجزيرة على إجابات ماكرون بأمثلة ووقائع وأسئلة وتناقضات لدحضها، بل كان يقرها بصمته وأحيانا بإضافة بعض “الملح” ليجعلها سائغة، أو بابتسامة إعجاب بما قاله ماكرون. فليس أنجح وسيلة لتسويغ أفكار ومواقف الى المسلمين، من أن يقدمها لهم من يكون هو نفسه من المسلمين.
الجزيرة منحت منصة لماكرون ليقنع من خلالها المسلمين بالعلمانية الفرنسية المتطرفة التي لا تتجرأ على معاداة إلا الإسلام والمسلمين، وليقنع (أي ماكرون) المسلمين بوجوب تقبلهم الإساءة لنبيهم، وليقنعهم بإسلام مُحَرَّف، إسلام فرنسي، وليوهمهم أن مشكلة المسلمين هو الإرهاب “الإسلامي”، وليس الإرهاب العلماني الغربي الذي يحارب المسلمين في قعر بلدانهم الإسلامية، ويتدخل في شؤونهم الداخلية، ويفرض عليهم قوانين تبقيهم فقراء ضعفاء تابعين له وتمنعهم من النهضة والتحرر، وينهب خيرات بلدانهم، ويدعم الأنظمة الطاغية الديكتاتورية التي تمارس أنواعا شتى من الإرهاب على المسلمين.
من العدل والإنصاف أن يتعامل الغرب مع جرائم يقوم بها مسلمون على أنها جرائم فردية وألا يُحمَّل كل المسلمين مسؤوليتها
بدأ موظف الجزيرة، عياش دراجي – مدير مكتب الجزيرة في باريس –، الحوار مع ماكرون بسؤاله عن جريمتي القتل التي قام بها شخصين مسلمين مؤخرا في فرنسا، وكأن الجزيرة تسعى من خلال البدء بعرض تلك الجريمتين لتبرير حرب فرنسا وماكرون على الإسلام والمسلمين.
والأصل هنا، إذا ذُكرت مثل تلك الجرائم، أن يناقش الصحفي المحنك والجريء والمحايد والمنصف سبب عدم تعاطي الغرب مع مثل تلك الجرائم على أنها جرائم وفقط، وليست أعمالا إرهابية، وأنه (أي الغرب) عليه أن يتعامل معها على أنها جرائم فردية، وألا تُربط الجريمة بديانة المجرم، وألا يُحمَّل المسلمون مسؤوليتها، وألا تُتخذ الجريمة التي يقوم بها شخص مسلم ذريعة لاضطهاد المسلمين. أي أن يتعامل الغرب مع جرائم يرتكبها أشخاص مسلمون تماما كما يتعامل مع جرائم يرتكبها أفراد تابعين للديانة النصرانية أو اليهودية أو ملحدون أو علمانيون (وما أكثر جرائم هؤلاء الأخيرين التي لا يسلط عليها الإعلام الأضواء)، حيث لا يعتبرها أعمالا إرهابية، ولا نرى قط بعد وقوع جريمة قام بها نصراني مثلا، حملات اقتحام للكنائس وإغلاقها وحملة اعتقالات لكل من له علاقة بالنصراني المجرم، ولا حملات ضد الديانة النصرانية والنصارى ولا دعاوى لوجوب تغيير طريقة عيشهم وتفكيرهم وتنقيح ما تلقنه لهم كتبهم الدينية، الخ.
فهناك ازدواجية المعايير لدى الغرب وإعلامه في تعاملهم مع الجرائم: فإن كان المجرم مسلما أصبحت الجريمة عملا إرهابيا وتم تناول الحدث وكأنه قيام الساعة، وحُمِّل المسلمون كلهم ودينهم ورسولهم مسئولية الجريمة. لكن في المقابل، لو قام بالجريمة نصراني أو يهودي، أو ملحد، أو علماني، فتتعامل معها دول الغرب وصحافته بعقلانية وهدوء، ولا تربطه بديانة المجرم، ولا تسمي الجريمة عملا إرهابيا، وتتعامل معها على أنها جريمة فردية – شاذة –، ومقترفها يكون غالبا مجنونا أو مضطرب نفسيا، فهل الاضطراب النفسي والجنون يمكن أن يصيب كل إنسان إلا من كان مسلما؟
فعلى سبيل المثال لا الحصر، الهجوم الإرهابي في مدينة “كرايستشيرش” (نيوزيلندا) في 8 رجب 1440هـ (15 مارس 2019م) على مصلين في مسجدي النور ومركز لينود الإسلامي، الذي نقل فيه الإرهابي النصراني عملية قتله للمسلمين على البث المباشر، وأسفر على قتل 51 من المسلمين وجرح 50 آخرين، أُسدِل عليه الستار بمحاكمة منفذ الهجوم الإرهابي لوحده، إذ اعتبرت عملية فردية، ولم يتم اعتقال أو محاكمة غيره من مساعديه، مع أن عمليته كانت من العيار الثقيل، وهو ليس من أهل نيوزلندا أصلا، وما كان ليحصل على كل المتفجرات والأسلحة المتطورة والقيام بالعملية الإرهابية إلا بمساعدة شبكة واسعة وفرت له كل أنواع المساعدة والتمويل والحماية والتغطية. ولم تُعتبر العملية إرهابا نصرانيا، ولم يتم الهجوم على الديانة النصرانية ولا على النصارى، مع أن الإرهابي منفذ العملية، كانت حتى أسلحته مزخرفة بشعارات دينية نصرانية.
«اقرأ أيضا: كيف يرد المسلم على تهجم فرنسا على نبيه ودينه»
نفس الأسباب الموجبة لقوانين تجرم إنكار المحرقة ومعاداة اليهود، توجب إصدار قانون يمنع نشر رسوم مسيئة للرسول محمد ويجرم ربط الإرهاب بالإسلام
من خبث الجزيرة محاولتها تبييض وجه ماكرون والدولة الفرنسية، وتهدئة غضب المسلمين، بتسويق أن “الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ليست مشروعا حكوميا بل هي منبثقة من صحف حرة ومستقلة غير تابعة للحكومة”، وتقديم ماكرون وكأنه محايد لا يعادي الإسلام ولا يضطهد المسلمين، بل ويتفهم مشاعر المسلمين إزاء تلك الرسوم المسيئة المحقرة، ولكنه (أي ماكرون) محكوم بقوانين حرية التعبير، ولا يمكنه منع تلك الرسوم.
فهل يجرؤ أحد في فرنسا، وعلى رأسه الإعلام والصحافة الفرنسية، نشر ما يسيء لليهود، أو يكذب محرقة اليهود أو حتى مجرد التشكيك في عدد ضحايا المحرقة الذي قام بها النازيون الألمان ضد اليهود؟ وهل تستطيع تلك الصحف “الحرة والمستقلة” تكذيب ما يسمى “إبادة الأرمن”؟ أين هي حرية التعبير، حين قضت المحاكم الفرنسية عام 1419هـ (1998م) على المواطن الفرنسي المسلم، روجيه جارودي، بالسجن تسعة أشهر مع إيقاف التنفيذ وغرامة مالية قدرها 160000 فرنك فرنسي، بتهمة التشكيك في بعض تفاصيل محرقة اليهود (كعدد الضحايا) في كتابه “الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل”، الحكم القضائي الفرنسي الذي أيدته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان سنة 1424هـ (2003م)؟
الرئيس الفرنسي ماكرون برر القوانين التي تمنع مراجعة التاريخ وتجرم إنكار محرقة اليهود في العهد النازي، بأن كثيرا من الناس بنوا معاداة اليهود على نكران المحرقة، وأن فرنسا لا تسمح بتغذية الحقد من التاريخ المُحرف أو المُراجع، الخ. طيب، أليست معاداة المسلمين واضطهادهم يتغذى أيضا من الرسوم المسيئة للرسول محمد، ومن العزف ليل نهار في كل وسائل الإعلام على وثر “الإرهاب الإسلامي”؟ أليست الرسوم المسيئة لمحمد صلى الله عليه وسلم تحريف للتاريخ وللحقيقة؟ أليست نفس الأسباب التي أدت لإصدار قوانين تجرم معاداة اليهود وإنكار المحرقة، هي نفسها التي توجب إصدار قانون يمنع نشر رسوم مسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ويجرم ربط الإرهاب بالإسلام؟ فإذا كان إنكار قتل النازيين ليهودٍ جريمة بحق اليهود كلهم، وسبب في تغذية العداوة ضدهم، فنشر رسوم للرسول ووسم الإسلام بالإرهاب، هي أيضا جريمة بحق المسلمين وتغذي معاداة المسلمين وتبرر اضطهادهم.
فالمطلوب ليس “تفهم الرئيس الفرنسي” مشاعر المسلمين إزاء الرسوم المسيئة لنبيهم والمحقرة لهم، ولكن الواجب احترامهم وتقدير مشاعرهم عمليا، بإصدار قانون يمنع رسوما تهين الأنبياء وتشيطنهم. مثل هذا القانون هو الذي سيحقق سلما اجتماعيا، تُحفظ فيه مشاعر وكرامة الكل.
يجب التفريق بين نقد الديانات والأفكار والأنظمة والقوانين، وبين سب الرسل نشر رسوم مسيئة لهم
الجزيرة لم تبين للرئيس الفرنسي أن هناك فرق بين نقد الديانات والأفكار والأنظمة والقوانين، وبين سب الرسول والكذب عليه ونشر رسوم مسيئة له. فالمسلمون ليست عندهم مشكلة مع انتقاد الغرب لدينهم ولأفكار الإسلام وأحكامه، ولم تكن عندهم مشكلة قط مع ذلك منذ بعثة الرسول، بل المسلمون مستعدون دائما للمناظرة والصراع الفكري لدحض مزاعم الغير، وتبيان الحق، والقرآن مليء بآيات نقلت انتقادات الكفار وترد على مزاعمهم وادعاءاتهم. لكن الخلاف العقائدي، والصراع الفكري، وتوجيه النقد، لا علاقة له بسب الأنبياء والإساءة إليهم، فهذا ليس حرية تعبير، ولا فكر، ولا أدب. لن تجد في القرآن ولا الحديث النبوي قط إهانة لأي رسول ولا لأي ديانة سماوية، ولكن تجد الذم يقتصر على أتباع أولئك الرسل الذين حرفوا الدين الأصلي ليوافق هواهم، وكذبوا على الرسل، ونسبوا إليهم ما ليس فيهم وما لم يصدر منهم. فيجب التفريق بين حرية التعبير في نقد الأفكار والأحكام والقوانين والعقائد، وبين سب الرسل وإهانتهم والإساءة إليهم.
هل ارتداء الحجاب أم عرض رسوم مسيئة للرسول محمد في المدرسة هو الذي يخرق مبدأ حيادية العلمانية تجاه الأديان ويرسخ موقفا نمطيا عدائيا لدى الأطفال تجاه الإسلام؟
برر الرئيس الفرنسي ماكرون قوانين منع الحجاب والنقاب بأن الدولة علمانية وتمارس الحياد تجاه الأديان، ومن ثم على كل من يتولى وظيفة عمومية، كالمعلمين مثلا، ومن باب مبدأ الحياد، ألا يظهروا أي إشارات أو علامات دينية، وأن عقول الأطفال ليست كاملة النضج، فلا يجوز التأثير عليها بمظاهر دينية. هنا كان على موظف قناة الجزيرة أن يقول له: وألا يخترق عرض صور مسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم في المدرسة مبدأ الحيادية الدينية، ويزرع في عقول أطفال كراهية الإسلام والمسلمين، وينمي فيهم نظرة نمطية كاذبة، نظرة كراهية، تجاه الإسلام والمسلمين؟
ثم كيف يمكن تحقيق تعايش يتميز بالاحترام وتقدير الغير، كما يدعي ماكرون، إذا كنت تقوم بأعمال تُحقِّر الغير وتهينهم؟
كذبة “الحرية الكاملة” لممارسة المسلمين لدينهم في فرنسا
ومن أكبر افتراءات فرنسا ورئيسها ماكرون، هو القول بأن المسلمين يمارسون دينهم بكل حرية في فرنسا، وأن العلمانية محايدة تجاه كل الأديان، وأن حرية التعبير حق مطلق، بحيث يجوز استنادا إليه نشر رسوم مسيئة للرسول!
فكيف يمارس المسلمون حريتهم في التدين، والمسلمات لا يجوز لهن ارتداء الحجاب إن أردن العمل أو التعليم؟ أين حرية المسلمين في فرنسا، إن كان القانون يجبر المسلمات أن يقبلن بفحص طبيب رجل لهن؟ أين هي حرية المسلمين، إن كانت الطالبات المسلمات تجبرن على السباحة مع الذكور كاشفات لعورتهن؟ فرنسا منعت حتى ما يسمى “البوركيني” (مع الإشارة الى أنه لباس لا يوافق معايير الإسلام في ستر العورة).
العلمانية لم تضمن الحريات ولم تحققها، بل فرضت نمطها في العيش والتفكير على الناس حتى في المسائل الشخصية. فلباس الحجاب لا يؤذي أحدا ولا يقيد حرية أحد، ولا يثير غريزة أحد. وتفريق الإناث والذكور في حصص الرياضة (ومن بينها السباحة)، لا يؤثر بحال على جودة التدريب ولا يمنع قدرة الطلبة على تعلم مهارات تلك الرياضة.
تعليق واحد