«الدين العلماني الخطير في فرنسا» مقالٌ حذفته مجلة “السياسة” الأوروبية: نموذج لـ”حرية التعبير”

نشرت النسخة الأوروبية لمجلة “السياسة” (بوليتيكو) الأمريكية يوم 14 ربيع الأول 1442هـ (31 أكتوبر 2020م)، مقالا تحت عنوان «الدين العلماني الخطير في فرنسا» للكاتب “فرهاد خسروخاور”، مدير في «كلية الدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية»، ومدير قسم «رصد التطرف» ومسئول فريق العمل ضمن «الهيئة الدولية حول الخروج من العنف» في «دار العلوم الانسانية» في العاصمة الفرنسية باريس.
إلا أن المقال، الذي لدى موقع «الحدث في العمق» نسخة كاملة منه، تم حذفه من موقع المجلة ساعات قليلة فقط بعد نشره، بسبب “عدم إيفائه المعايير التحريرية” للمجلة، كما برر “ستيفن براون”، رئيس تحرير مجلة “السياسة” (بوليتيكو)، فرع أوروبا.
“فرهاد خسروخاور”، الباحث الأكاديمي المتخصص في «التطرف» و«كيفية الخروج منه»، تطرق في المقال لسؤال محوري في نظره: “لماذا يتم استهداف فرنسا مرارًا وتكرارًا من قبل المتطرفين العنيفين؟”.
يجيب “فرهاد خسروخاور” على السؤال بجواب واضح وبسيط، حيث قال: [السبب بسيط: الشكل المتطرف للعلمانية في فرنسا واحتضانها للتجديف، هذا الأمر غذى الراديكالية بين أقلية مهمشة] (انتهى الاقتباس). وذكر “فرهاد خسروخاور” بالخصوص – ما سماها – “الرسوم الكاريكاتورية التجديفية لمحمد” التي أدت إلى الهجوم الأصلي ضد صحيفة شارلي إيبدو.
وأضاف “فرهاد خسروخاور” قائلا: هذا الثنائي – العلمانية الراديكالية والراديكالية الدينية – انخرطوا في رقصة قاتلة منذ ذلك الحين.
للإشارة، التجديف هو ما يُعرف اليوم بازدراء الأديان. فالتجديف هو كل إهانة منطوقة أو مكتوبة ضد اسم الله أو فعله أو صفاته، ويشمل التجديف ازدراء الأنبياء وإهانتهم.
ألقى “فرهاد خسروخاور” اللوم على الدولة الفرنسية، حيث قال أن من واجبها كدولة علمانية أن تكون محايدة، وأن الحيادية تعني فرض الدولة احترام الأديان في الفضاء العام، من أجل تجنب تصاعد التعصب الديني. إلا أنه في العصر الحديث، حسب رأي “فرهاد خسروخاور”، تم استبدال العلمانية المعتدلة التي سادت في سبعينيات القرن الماضي بشيء أقرب إلى “الدين المدني”.
وعرَّف “فرهاد خسروخاور” هذا “الدين المدني” الجديد في فرنسا، بأنه نظام عقائدي، وأن “بابا” هذا الدين هو رئيس الجمهورية، وقساوسته هم الوزراء، وأتباعه هم من الطبقة المثقفة؛ وأن كل شخص يدعو إلى موقف أقل عدائية تجاه الإسلام يصنف على أنه زنديق! يُلاحظ هنا أن “فرهاد خسروخاور” يرى أن نفس الوظائف والمقامات والتصنيفات التي كانت في عهد حكم الكنيسة في العصور الوسطى، موجودة اليوم أيضا في “الدين المدني” (الدين العلماني) الجديد.
وقال “فرهاد خسروخاور” أن التجديف حقٌّ مُعترف به قانونيا في أوروبا الغربية، إلا أن حماية حرية التجديف شيء، والحض على التجديف بحماس شيء آخر. ودعا الى وجوب استخدامه، في أحسن الأحوال، باعتدال في بلد كفرنسا يتراوح عدد سكانها من المسلمين حوالي 8 في المائة.
ويعتبر “فرهاد خسروخاور” أن الاستخدام للرسوم الكاريكاتورية بطريقة مفرطة ضد الرسول محمد باسم الحق في التجديف، يوصم حتى أكثر المسلمين اعتدالًا أو علمانية ويهينهم.
ما السبب الذي دفع مجلة “السياسة” لحذف مقال «الدين العلماني الخطير في فرنسا»؟
الظاهر أن المجلة تلقت اتصالات من جهات ذات نفوذ داخل أوروبا و/أو أمريكا، مباشرة بعد نشر المقال، وضُغِط عليها لحذفه. وربما يكون السبب هو أن مقال “فرهاد خسروخاور” قد يُفسر على أنه يبرر ولو جزئيا “أعمال العنف” التي قام بها مسلمون في فرنسا.
فالخط العريض الأحمر الذي تفرضه السياسة الغربية والإعلام المساند لها، هو أن “العنف الغربي” بكل أشكاله، من الحروب التي تخوضها جيوش الدول الغربية في البلدان الإسلامية والقتل والتخريب الذي تحدثه الى التجديف ضد الرسول محمد في أوروبا، لا يجوز بحال مجرد أن يُناقش نظريا على أنه يمكنه أن يكون دافعا – ناهيك عن مبررا – لأي أعمال عنف تصدر من مسلمين. فحرية التعبير عند الغرب تنتهي عند الخطوط التي يرسمها.
من حق الغرب أن يضع هذا الخط العريض، ويمنع ما أمكن أي نقاش عميق عن أسباب العنف والعنف المضاد.
لكن هذا الموقف الغربي، يدفعنا للتساؤل، لماذا لا يتعامل المسلمون أيضا – عوَامُّهم ومشايخهم وإعلامهم ومثقفيهم وسياسييهم – بنفس المنظور الذي يعاملهم به الغرب، فلا يُجِيزون بحال أن تناقش في الفضاء الإعلامي للمسلمين الجرائم وأعمال العنف التي يقوم بها مسلمون ضد الغرب، على أنها مبرر لمحاربة الإسلام ووصمه والمسلمين بالتطرف والإرهاب، ولا مبررا لحروب دول غربية ضد المسلمين واجتياحها لبلدانهم وتدميرها لمدنهم وقتلها لشعوبهم وتهجيرها لهم، ولا أن يُبرَّر بها الاضطهاد الذي يُمارسه الغرب على المسلمين الذين يعيشون عنده. فالجرائم التي يقوم بها مسلمون في الغرب، يجب أن يُعاقب فاعلوها فقط، دون ربط الجريمة بالإسلام والمسلمين، ودون وصم الإسلام والمسلمين بالإرهاب، ودون اتخاذ تلك الجرائم ذريعة لاستصدار قوانين تضطهد المسلمين وتضيق عليهم وتصادر حقوقهم وحريتهم، ولا أن تُتخذ ذريعة لغزو بلدان المسلمين.
خلافا لمجلة “السياسة” (بوليتيكو) الغربية، التي لم تسمح حتى لباحث أكاديمي متخصص في علم الاجتماع والعنف، أن ينشر على منصتها مقالا فيه ما يُمكن أن يُفسَّر على أنه تبرير جزئي لجرائم قام بها مسلمون في فرنسا؛ فإننا رأينا على سبيل المثال لا الحصر الحوار الذي أجرته قناة “الجزيرة” مؤخرا مع الرئيس الفرنسي ماكرون، الجزيرة التابعة لبلد مسلم، حيث جعلت من نفسها منصة يطرح فيها الرئيس الفرنسي بكل أريحية ودون معارضة ورد من مذيع الجزيرة، ما أسماه “الإرهاب الإسلامي” ويتخذه مبررا لسياسات الاضطهاد والبطش التي تقوم بها فرنسا ضد المسلمين، ومبررا لغزو فرنسا للبلاد الإسلامية.
«الجزيرة تسارع لإنقاذ فرنسا من حملة المقاطعة وتبييض وجه ماكرون ومنحه منصة لجلد المسلمين»
الجزيرة سمحت للرئيس الفرنسي أن يتخذها منصة ليجلد المسلمين ويقول لهم أن أعمال العنف التي يقوم بعض المسلمين تبرر لفرنسا إصدار قوانين تتدخل حتى في تربية الآباء المسلمين لأطفالهم، قوانين تجعل الوصاية على الأطفال المسلمين للدولة العلمانية وليس لآبائهم.
الرئيس الفرنسي ماكرون اتخذ من قناة “الجزيرة” منصة ليبرر العلمانية الفرنسية المتطرفة التي تفرض على المسلمين أن يتقبلوا إهانة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وألا يحتجوا على ذلك حتى لفظيا. العلمانية المتطرفة التي تمنع المسلمة من ارتداء الحجاب، وتفرض عليها ألَّا ترفض أن يفحص عليها طبيب بدلا من طبيبة، وتجبرها أن تسبح شبه عارية مع الرجال في المدرسة. العلمانية المتطرفة التي تبرر غلق مسجد في فرنسا لمجرد أن إمامه نشر على موقعه احتجاجا لفظيا لأحد الآباء على الرسوم التي عرضها معلم على الأطفال في المدرسة. ….
فمن يمارس من المسلمين جلد الذات ويقبل اتخاذَ الغرب جرائم يقوم بها مسلمون ذريعة ومبررا لمحاربة الإسلام واتهامه والمسلمين بالإرهاب ولاضطهاد المسلمين واحتلال بلدانهم، – في نفس الوقت الذي لا يقبل فيه الغرب أن يبرَّر عنفُ مسلمين بالعنف الذي يمارسه الغرب عليهم – (رغم أن الدافع أو التبرير لا يلغي بحال صفة الجريمة عن الفعل ولا العقوبة عليه)، .. من يكن ذلك حاله من المسلمين، فإنه ينطبق عليه قول المتنبي:
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ ::::::: ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ
فهرس:
مجلة “السياسة” (بوليتيكو) = POLITICO
فرهاد خسروخاور = Farhad Khosrokhavar