المصالحة بين قطر والسعودية: ليس كل صلح خير

خرج يوم الجمعة، 18 ربيع الثاني 1442هـ (4 ديسمبر 2020م)، وزير الخارجية الكويتي الشيخ أحمد الناصر المحمد الصباح، في إعلان مقتضب قال فيه: أن مباحثات مُثمرة، تحت رعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبوساطة أمير الكويت، قد جرت خلال الفترة الماضية لتسوية الأزمة، وأن كافة الأطراف المشاركة في المباحثات أكدت حرصها “على التضامن والاستقرار الخليجي والعربي، وعلى الوصول إلى اتفاق نهائي يحقق ما تصبوا إليه من تضامن دائم بين دولهم وتحقيق ما فيه خير شعوبهم”. وشكر وزير خارجية الكويت جاريد كوشنر، صهر ومستشار الرئيس الأمريكي، على جهوده في خلال هذه المباحثات.
تصريحات وزير الخارجية الكويتي أتت على خلفية مقاطعة السعودية والإمارات والبحرين ومصر لقطر منذ 10 رمضان 1438هـ (5 يونيو 2017م)، بقطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية، وإغلاق كل المنافذ الجوية والبحرية والبرية لتلك الدول مع قطر.
وذكرت وكالة الأنباء الألمانية أن خالد الجار الله، نائب وزير الخارجية الكويتي، أعلن أن: “الأزمة الخليجية طويت وتم التوصل إلى اتفاق نهائي بين الأطراف الخليجية”، وأنه: “سوف يترتب على هذا الاتفاق الدخول في التفاصيل المتعلقة به قريبا”. … وأن “هناك خطوات قريبة سوف يتم الإعلان عنها للانطلاق نحو المستقبل وطي صفحة الخلاف”.
تساؤلات تنتظر أجوبة
هناك أسئلة غاية في الأهمية يجب طرحها، كما أن هناك مطالب يجب على شعوب دويلات الخليج تبنيها والإصرار عليها.
أولا، ما هي تفاصيل شروط المصالحة بين قطر والسعودية، وباقي الدويلات المُقاطعة لقطر كالإمارات والبحرين ومصر؟ ومن سيكون الخاسر في هذا الصلح وسيدفع ثمنه؟
ثانيا، هل ستعرف شعوب دويلات الخليج تفاصيل تلك الشروط؟ وهل ستتطلع المجالس النيابية (البرلمانات) على الشروط كلها؟ وهل سيكون من حق الشعوب والمجالس النيابية التصويت عليها؟
للإجابة على التساؤل الأول، يجب أن نعود بالذاكرة لشروط الصلح التي وقَّعت عليها قطر مع السعودية والبحرين والإمارات، عقب سحب الدول الثلاث الأخيرة سفرائها من قطر في جمادى الأولى 1435هـ (مارس 2014م).
شروط إنهاء المقاطعة الديبلوماسية لقطر سنة 1435هـ / 2014م
شروط عودة العلاقات الديبلوماسية القطرية – الخليجية، أشهر فقط بعد قطعها، كان غالبها سري، لم يتم الإعلان عنها (أو ربما عن بعضها) إلا في شوال 1438هـ (يوليو 2017م)، بعد المقاطعة الأخيرة لقطر من قِبَل كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر. فقد نشرت وسائل إعلام سعودية وإماراتية وثيقتين لشروط الصلح.
الوثيقة الأولى حملت اسم “اتفاق الرياض”، تم التوقيع عليها بتاريخ 19 محرم 1435هـ (23 نوفمبر 2013م)، وهي مخطوطة باليد.
أما الوثيقة الثانية فمطبوعة، وتحمل اسم “اتفاق الرياض التكميلي”، تم التوقيع عليها بتاريخ 23 محرم 1436هـ (16 نوفمبر 2014م)، وصُنفت على أنها “سرية للغاية”!
من بين ما نصت عليه وثيقة الرياض الأولى المكتوبة بخط اليد:
- عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي من دول المجلس بشكل مباشر أو غير مباشر وعدم إيواء أو تجنيس أي من مواطني دول المجلس ممن لهم نشاط يتعارض مع أنظمة دولته إلا في حال موافقة دولته، وعدم دعم الفئات المارقة المعارضة لدولهم، وعدم دعم الإعلام المعادي.
- عدم دعم الإخوان أو أي من المنظمات أو التنظيمات أو الأفراد الذين يهددون أمن واستقرار دول المجلس عن طريق العمل الأمني المباشر أو عن طريق محاولة التأثير السياسي.
- عدم قيام أي من دول مجلس التعاون بتقديم الدعم لأي فئة كانت في اليمن ممن يشكلون خطرًا على الدول المجاورة لليمن.
أما وثيقة الرياض التكميلية المطبوعة، فمن بين بنودها:
- التأكيد على أن عدم الالتزام بأي بند من بنود اتفاق الرياض وآلياته التنفيذية يعد إخلالا بكامل ما ورد فيهما.
- أن ما توصل إليه رؤساء الأجهزة الاستخباراتية في محضرهم المشار إليه أعلاه يعد تقدما لإنفاذ اتفاق الرياض وآلياته التنفيذية، مع ضرورة الالتزام الكامل بتنفيذ جميع ما ورد فيهما في مدة لا تتجاوز شهر من تاريخ هذا الاتفاق.
- عدم إيواء أو توظيف أو دعم – بشكل مباشر أو غير مباشر – في الداخل أو الخارج أي شخص أو أي وسيلة إعلامية ممن له توجهات تسيء إلى أي دولة من دول مجلس التعاون، وتلتزم كل دولة باتخاذ كافة الإجراءات النظامية والقانونية والقضائية بحق من يصدر عن هؤلاء أي تجاوز ضد أي دولة أخرى من دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بما في ذلك محاكمته، وأن يتم الإعلان عن ذلك في وسائل الإعلام.
- التزام كافة الدول بنهج سياسة مجلس التعاون لدول الخليج العربية لدعم جمهورية مصر العربية والإسهام في أمنها واستقرارها والمساهمة في دعمها اقتصاديا، وإيقاف كافة النشاطات الإعلامية الموجهة ضد جمهورية مصر العربية في جميع وسائل الإعلام بصفة مباشرة أو غير مباشرة بما في ذلك ما يبث من إساءات على قنوات الجزيرة وقناة مصر مباشر، والسعي لإيقاف ما ينشر من إساءات في الإعلام المصري.
بعض تداعيات اتفاق الصلح سنة 1436هـ (2014م) بين قطر والسعودية
تغير في تعاطي قناة الجزيرة مع الانقلاب في مصر
مباشرة بعد اتفاق الرياض التكميلي (في محرم 1436هـ / نوفمبر 2014م)، واللقاء الذي تلاه بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والمبعوث القطري الخاص الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني بمشاركة رئيس ديوان ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز، قامت قطر بتغيير كبير في السياسة الإعلامية لقناة الجزيرة فيما يخص تعاطيها مع الأحداث في مصر، حيث أوقفت مثلا بث قناة “الجزيرة مباشر مصر”. كما غيرت الجزيرة لهجة نشراتها الإخبارية، وذلك بوصف السيسي على أنه “الرئيس السيسي”، بعد أن كان يوصف بـ”قائد الانقلاب العسكري”. كما بدأت تقلل من عرض أخبار الحراك المعارض للسيسي وتتحدث عنه على أنه حراك ضد “السلطة المصرية” وليس ضد “سلطات الانقلاب في مصر”، كما كانت تفعل من قبل. وتوقفت الجزيرة عن استضافة المعارضين الشرسين لنظام العسكر في مصر.
قطر تطرد بعض قيادات الإخوان والمتعاطفين مع الجماعة
في ذي القعدة 1435هـ (سبتمبر 2014م)، أمرت قطر بعض قيادات الجماعة ومؤيديها بمغادرة أراضيها خلال مدة زمنية حددتها بأقل من شهر. وقد شملت قائمة المطرودين كلا من عمرو دراج وزير التخطيط المصري السابق والقيادي بحزب الحرية والعدالة، ومحمود حسين أمين عام جماعة الإخوان المسلمين، وجمال عبد الستار القيادي بالجماعة، وحمزة زوبع المتحدث باسم حزب الحرية والعدالة، وعصام تليمة القيادي بتحالف “دعم الشرعية”، بالإضافة إلى الداعية وجدي غنيم.
قطر تسلم ناشطا حقوقيا للنظام السعودي
في رمضان 1438هـ (مايو 2017م) تآمرت قطر مع المخابرات السعودية ضد الناشط السعودي في مجال حقوق الإنسان، محمد عبد الله العتيبي، حيث كان هذا الأخير قد حصل على حق اللجوء الى دولة النرويج ومنحته تأشيرة تخول له الانتقال الى النرويج. إلا أن السلطات القطرية أوقفت العتيبي في مطار الدوحة ومنعته هو وزوجته من المغادرة الى النرويج، ورحَّلته أياما بعدها الى السعودية.
وبررت قطر ترحيلها للعتيبي الى السعودية بالقول أن: “الترحيل بُني على أسس قانونية وقائم على اتفاقات إقليمية ودولية تتعلق بترحيل المجرمين والمتهمين”. العتيبي الذي يطالب بحقوق الإنسان في السعودية، وصفته قطر بالمجرم!
محمد عبد الله العتيبي اعتقلته السلطات السعودية للمرة الأولى في محرم 1430هـ (يناير عام 2009م)، حيث اتُّهم بمحاولة “الشروع في احتجاج سلمي“، وبقي في السجن حتى رجب 1433هـ (يونيو 2012م). وبعد إطلاق سراحه مُنع من مغادرة السعودية.
شارك محمد عبد الله العتيبي في 1434هـ (2013م) في تأسيس اتحاد حقوق الإنسان في الرياض، إلا أن السلطات السعودية أغلقته بعد شهر فقط من تأسيسه.
وفي 28 محرم 1438هـ (30 أكتوبر 2016م)، استُدعي العتيبي للمثول أمام محكمة سعودية، وهي هيئة قضائية مكلفة بالنظر في قضايا الإرهاب اشتهرت بتلفيقها التهم لكل من خالف النظام، حيث وُجهت له عدة تهم منها “المشاركة في تأسيس جمعية غير قانونية” و”إعداد وتوقيع ونشر بيانات على الإنترنت تضر بسمعة المملكة ومؤسساتها القضائية والأمنية”.
وخوفا من تلفيق تُهم الإرهاب له ومحاكمته على أساسها، – بسبب نشاطه الحقوقي السلمي –، هرب العتيبي إلى قطر في رجب 1438هـ (مارس 2017م)، حيث تمكن من الحصول على وضعية لاجئ من الأمم المتحدة وكان من المفترض بعد ذلك أن يتوجه إلى النرويج كجزء برنامج الحماية الأممي، لكن السلطات القطرية أوقفته وسلمته للسعودية.
تسلمت السلطات السعودية محمد عبد الله العتيبي من قطر، وحكمت عليه بالسجن 14 عاما بموجب الاتهامات المذكورة أعلاه.
المصالحة بين دويلات الخليج تعني مزيدا من الشر ومزيدا من الاضطهاد والحصار للناشطين السياسيين والإسلاميين والحقوقيين
إنهاء مقاطعة السعودية والإمارات والبحرين لقطر، سيكون فيه ولا شك إنهاء لكثير من المظالم التي لحقت بالمواطنين العاديين، حيث أن كثير من الأسر تقطعت أرحامها لعدم مقدرة زيارة بعضهم البعض إذا كان أحد أفرادها يعيشون في قطر. كما أن إعادة فتح الأجواء والمياه أمام الطائرات والسفن القطرية، سيقلص تكاليف الرحلات التجارية والسياحية القطرية. إلا أن هذا كله لا يجوز أن يكون على حساب حقوق وواجبات مبدئية، لا يجوز أن يكون على حساب خيانة طيف من المسلمين والمساومة على حريتهم واضطهادهم، ومساندة الظالمين، وخذلان المظلومين.
فمما سبق ذكره من شروط المصالحة بين قطر والسعودية سنة 1435هـ / 2014م، وبِحُكم معرفتنا بطبيعة الأنظمة القمعية الديكتاتورية في العالم الإسلامي عموما والدويلات العربية خصوصا، يمكن بسهولة تخمين بعض أهم ما ستتضمنه شروط المصالحة الحالية بين قطر والسعودية والبحرين ومصر. فالاتفاق سيكون أمنياً مخابراتياً بامتياز، يستهدف كل من ينشط إسلاميا، وعلى رأسهم من ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين أو يتعاطف معها. ويستهدف كل من ينشط في مجال حقوق الانسان ويطالب بإصلاح الأنظمة المتحكمة في تلك البلدان ناهيك عمن يدعو لإزالتها. وسيستهدف الاتفاق كل من ينتقد الحكام في أي شيء مهما صَغُر. الاتفاق سيسعى لإغلاق كل متنفس للمسلمين للتعبير عن آرائهم السياسية، وعدم تمكين أي مسلم من اللجوء لأي بلد من البلدان الموقعة على الاتفاق هروبا من بطش دويلته الأصلية، وسيلزم كل دويلة تسليم من هرب إليها.
فالسعودية على الخصوص تريد توسيع نطاق سياساتها القمعية الخانقة على كل دويلات الخليج، بحيث يكون الإعلام كله في كل تلك البلدان مجرد بوق للأنظمة الحاكمة، لا ينتقدها في أي شيء، ولا يكون وجودٌ لأي منظمات أو جمعيات أو أحزاب سياسية أو حقوقية تطالب برفع المظالم عن الناس وتكافح لاسترداد حقوقهم. السعودية على الخصوص تريد “خليجا” قاحلا سياسيا وفكريا وإسلاميا، ليس فيه رأي إلا رأي الملك. …
بل وسيشمل الاتفاق، ولو بعد حين (كاتفاق تكميلي) – خصوصا بعدما ستطبع أيضا السعودية وقطر والكويت مع إسرائيل –، تجريم كل من يعادي إسرائيل من المسلمين ولا يعترف بها، سيعتبرون ذلك معاداة للسامية، وسيترتب عنه قوانين “معاداة السامية” كالتي في دول الغرب وربما أشد صرامة منها.
تركيا ستنخرط في التضييق على الإخوان
ومما سيترتب على تصفية الأجواء بين قطر والسعودية والإمارات والبحرين ومصر، واتفاقات توسيع التعاون بينهم في التجسس والتخابر ضد كل معارض لأنظمة الحكم في المنطقة، … سيترتب على ذلك انخراط تركيا – وربما بخطوات تدريجية – في التضييق على الإخوان الذين هربوا الى تركيا، بالضغط مثلا على قنواتهم الإعلامية للتغيير من خطابها العدائي ضد نظام العسكر في مصر، ورفض طلبات اللجوء والإقامة في تركيا لكثير من المعارضين والحقوقيين والإسلاميين الذين هربوا من مصر والكويت والإمارات والبحرين والسعودية، أو تعقيد شروط منحهم إياها. وربما يتبع ذلك في مراحل متقدمة طرد بعض القيادات الإخوانية أو حتى تسليمهم لدويلاتهم الأصلية، الخ …
لا يُستبعد اتخاذ تركيا مثل هذه الخطوات، فهي حتى في عز “تلاسنها” مع نظام العسكر في مصر، لم تنقطع علاقات أجهزتها الاستخباراتية مع مخابرات النظام المصري. فمثلا المصريون الذين لجأوا الى تركيا، تتحرى تركيا معلومات عنهم عن طريق الاتصال بأجهزة النظام المصري.
كما أن تركيا سلَّمت في 10 جمادى الأولى 1440هـ (17 يناير 2019م) الشاب المصري المهندس محمد عبد الحفيظ لمصر، الذي حكمت عليه محاكم السيسي غيابيا بالإعدام بتهمة قتل النائب العام المصري هشام بركات سنة 1436هـ/2015م، تهمةٌ غالب الظن أنها ملفقة ككثير من التهم الملفقة لآلاف الضحايا في مصر. المهندس محمد عبد الحفيظ يتعرض لتعذيب بشع منذ أن تسلمته السلطات المصرية، ومسجون في حجز انفرادي، ولا يُسمح لأحد بزيارته.
تصالح وتعاون أنظمة سايكس بيكو في العالم الإسلامي شرٌّ محض
فدويلات سايكس بيكو في العالم الإسلامي قاطبة وعلى رأسها الدويلات العربية، مجرد ثكنات أمنية مخابراتية، مجرد سجون مفتوحة، وليست دولا. فالأنظمة ليست خادمة للشعوب ولا حامية لها ولحقوق الناس وحرياتهم، ولا حاملة لمبدأ، فهي مجرد عصابات، بل وأسوأ وأفحش العصابات، استولت على بلدان وجعلت شعوبها رهائن عندها. ومن ثم فأي اتحاد وتصالح وتعاون بين تلك العصابات لا يُرجى منه خير قط، بل هو الشر المحض. العصابات المتحكمة في البلدان الإسلامية لا تتفق إلا على اضطهاد المسلمين والتجسس عليهم ومطاردة كل من يخالف الحكام في الرأي أو ينتقدهم أو يدعوا لقلع أنظمة حكمهم.
على الشعوب ومجالسها النيابية معرفة كل شروط المصالحة وأن تُمنح حق التصويت عليها وعليها إقرار واجب منح حق اللجوء السياسي والحماية لكل مضطهد
من سمات العصابات، كما هو حال الحكام والأنظمة المتحكمون في البلدان الإسلامية، أنها تعمل في الخفاء وتفتقد سياساتها للشفافية، ولا تستشير الشعوب وممثلوها في قرارات تهم الشأن العام. غالب الاتفاقيات التي يبرمها الحكام في البلدان الإسلامية مع دول ومنظمات ومؤسسات وشركات أجنبية، تكون سرية؛ وإذا عُلِمَت الاتفاقيات، فتبقى غالب بنودها سرية. هكذا كانت أيضا غالب شروط تصالح قطر مع السعودية والإمارات والبحرين بعد المقاطعة الديبلوماسية سنة 1435هـ / 2014م سرية، لم تعلم عنها الشعوب ولا المجالس النيابية شيئا، مع أنها شروط تتعلق بأمنهم وحريتهم وأمانهم، حيث اتفق حكامهم من وراء ظهورهم على عدم حماية من يهرب من البطش، وتسليم المظلومين لجلاديهم، وحرمانهم من حق اللجوء والإقامة والجنسية والحماية. حيث كانت أحد بنود الصلح تشترط [عدم إيواء أو تجنيس أي من مواطني دول المجلس ممن لهم نشاط يتعارض مع أنظمة دولته إلا في حال موافقة دولته، وعدم دعم الفئات المارقة المعارضة لدولهم، وعدم دعم الإعلام المعادي]، وبند آخر ينص على: [عدم إيواء أو توظيف أو دعم – بشكل مباشر أو غير مباشر – في الداخل أو الخارج أي شخص أو أي وسيلة إعلامية ممن له توجهات تسيء إلى أي دولة من دول مجلس التعاون، وتلتزم كل دولة باتخاذ كافة الإجراءات النظامية والقانونية والقضائية بحق من يصدر عن هؤلاء أي تجاوز ضد أي دولة أخرى من دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بما في ذلك محاكمته، وأن يتم الإعلان عن ذلك في وسائل الإعلام].
حتى العرب في الجاهلية، لم يجرؤوا على الاتفاق والتفاهم على بنود كهذه، بنود تحرم المظلومين والمضطهدين من أي مخرج وملجأ يفرون إليه، يرفع عنهم الظلم ويمنحهم الحماية. بل قبائل قريش المشركة تعاقدوا على ما سُمي بحلف الفضول، حلفٌ تعاقدوا فيه وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظَلَمَه، تحالفوا على رَدِّ الْمَظَالِمِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ. حلفٌ قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: «شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا لَوْ دُعِيتُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ، تَحَالَفُوا أَنْ يَرُدُّوا الْفُضُولَ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَلَّا يَعُزَّ ظَالِمٌ مَظْلُومًا» (النهاية والبداية لابن كثير).
وقد نظم الزبير بن عبد المطلب شعرا يفتخر فيه بحلف الفضول الذي يحمي المظلومين، حيث قال:
حَلَفْتُ لَنَعْقِدَنَّ حِلْفًا عَلَيْهِمْ وَإِنْ كُنَّا جَمِيعًا أَهْلَ دَارِ
نُسَمِّيهِ الْفُضُولَ إِذَا عَقَدْنَا يَعِزُّ بِهِ الْغَرِيبُ لِذِي الْجِوَارِ
وَيَعْلَمُ مَنْ حَوَالِي الْبَيْتِ أَنَّا أُبَاةُ الضَّيْمِ نَمْنَعُ كُلَّ عَارِ
إِنَّ الْفُضُولَ تَعَاقَدُوا وَتَحَالَفُوا أَلَّا يُقِيمَ بَبَطْنِ مَكَّةَ ظَالِمُ
أَمْرٌ عَلَيْهِ تَعَاقَدُوا وَتَوَاثَقُوا فَالْجَارُ وَالْمُعْتَرُّ فِيهِمْ سَالِمُ
ثم إن زعماء قريش وهم على شركهم، ورغم عداوتهم الشديدة لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء بدين يهدد ملكهم وسيادتهم، ورغم اضطهادهم للرسول ومن آمن به، إلا أنهم لم يلغوا عُرف الحماية الذي كان سائدا بين قبائل قريش، بحيث إذا طلب أحد الناس الحماية من قبيلة، تحميه من اضطهاد قبيلة أو قبائل أخرى له، أقرت القبيلة أو القبائل المُضطهِدَة حق الحماية الذي حصل عليه الشخص المُضطَهَد ولم تلزم القبيلة المانحة للحماية بتسليمه. والرسول نفسه عاش السنوات الأخيرة في مكة، بعد وفاة عمه وقبل هجرته الى المدينة، تحت حماية الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، أحد زعماء قريش، وكان المُطْعِم بْنِ عَدِيٍّ مشركا لم يؤمن بالرسول.
فقد دَعَا المُطْعِم بْنِ عَدِيٍّ بَنِيهِ وَقَوْمَهُ، عند عودة الرسول من الطائف، فَقَالَ: تَلَبَّسُوا السِّلاَحَ، وَكُونُوا عِنْدَ أَرْكَانِ الْبَيْتِ فَإِنِّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمَّدًا. فَنَادَى المُطْعِم بْنِ عَدِيٍّ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمَّدًا فَلاَ يَهِجْهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ، فَانْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَوَلَدُهُ مُطِيفُونَ بِهِ (الطبقات الكبرى لابن سعد)، وأقرت قريش حماية المُطْعِم بْنِ عَدِيٍّ للرسول.
فإذا كان العرب في الجاهلية أقروا عُرف الحماية واللجوء السياسي، وأجاروا المظلوم، فالأولى بالمسلمين أن يقوموا بذلك، بل ذلك من الفروض الشرعية. فهل ترضى شعوب الخليج أن تسد حكوماتهم الأبواب أمام من يهرب إليها من المظلومين والمضطهدين وتسلمهم لجلاديهم ليسجنوهم ويعذبوهم وينتهكوا أعراضهم ويقتلونهم؟
فالله فرض الأمان حتى للمشرك المُحارب إذا استجار المسلمين، فقد قال سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (سورة التوبة)، فما بالك بالمسلم!
إذا كان العرب في الجاهلية لم يقبلوا بتسليم من أجارهم، وحموه كما يحمون أبنائهم ونسائهم، فكيف تقبل الشعوب المسلمة بذلك، وقد مَنَّ الله عليها بنور الإسلام وعزته، الإسلام الذي لا يقبل بالظلم، ويأمر بإجارة المظلوم وحمايته والدفاع عنه، بل وخوض الحرب من أجل المستضعفين، فقد قال الله سبحانه: {مَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (سورة النساء). وقال رسول الله: “الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” (صحيح البخاري).
فمن يخذل مسلما ولا يقدم له يد العون، يخذله الله ويخزيه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ” مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْضِعٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ” (مسند أحمد).
فشروط الصلح بين دويلات الخليج أمر عام يمس حياة المسلمين وكرامتهم ودينهم وأمانهم وأمنهم، ومن ثم من حق شعوب دويلات الخليج، وعلى رأسها قطر والكويت والسعودية والإمارات والبحرين، أن تكون منخرطة في كل جزئيات اتفاقيات الصلح وتحدد هي شروطه، ولا يجوز إخفاء أي بنود أو شروط عنها، بل تُعرض بنود اتفاق الصلح للتصويت، التصويت على كل بند على حدته.