فيروس التاج وضَعَ الحجر الأساس للقاحات الحمض النووي الريبوزي: لقاح نوعي متفوق على اللقاحات التقليدية

على الرغم من أن لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال (م.آر.إن.إي) قد خضعت لتجارب موسعة خلال العقدين الأخيرين، سواء تجارب سريرية أو ما قبل السريرية، معظمها في مجال التطعيم العلاجي ضد السرطان، وبعضها ضد بعض الأمراض المعدية التي تسببها جراثيم، إلا أن مرض فيروس التاج 2019 (مفت-19) هو الذي سرَّع ومكَّن ترخيص أول لقاح يعتمد على الحمض النووي الريبوزي، وبالتالي وضع (أي مفت-19) حجر الأساس لأداة تلقيح قوية ونظيفة كبديل للقاحات التقليدية، لقاحٍ ذي مستقبل واعد.
لقاحات الحمض النووي الريبوزي تركيبة لقاح شمولية قابلة للتعديل بسهولة لمواجهة أوبئة جديدة
أظهر لقاحا بيونتك وموديرنا اللذان تم ترخيصهما مؤخرا ضد “متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد الشديد لفيروس التاج-2” (ماتحفي-2)، بأن لقاحات الحمض النووي الريبوزي (آر.إن.إي) تتوافر فيها شروط “تركيبة لقاح شمولي” بسيطة ونظيفة وسريعة الإنتاج، يمكن تعديلها بسهولة لمكافحة أي أمراض معدية جديدة، حيث يمكن تطوير اللقاح في وقت زمني يتراوح من أسابيع إلى بضعة أشهر فقط، بدلاً من سنوات كما كان الحال حتى الآن بالنسبة للقاحات التقليدية.
تركيبة لقاحي بيونتيك وموديرنا بسيطة، إذ تتكون من الحمض النووي الريبوزي المرسال (م.آر.إن.إي) الذي يحمل شفرة تكوين البروتين الشوكي لفيروس التاج، مغلف في جسيمات دهنية نانوية (جدن) بقطر حوالي 80 نانومتر تتكون من 4 أنواع مختلفة من الدهون. يمكن بسهولة استبدال م.آر.إن.إي الحاملة لشفرة البروتين الشوكي بأي م.آر.إن.إي يحمل شفرة أي مستضد آخر: على سبيل المثال، شفرة أي بروتين شوكي متحور؛ شفرة بروتين لأي فيروس أو بكتيريا أو طفيلي آخر، أو خليط من م.آر.إن.إي ذات سلاسل مختلفة تحمل شفرات لعدد من المستضدات ضد عدد من الجراثيم. نفس الغلاف الدهني يمكن استخدامه لتغليف أي م.آر.إن.إي بغض النظر عن سلسلة حمضها النووي (انظر الرسم التوضيحي).
بمجرد تصميم سلسلة الحمض النووي لـ”م.آر.إن.إي”، يكون إنتاج اللقاح (إنتاج م.آر.إن.إي وتعليبها في جدن – جسيمات دهنية نانوية-) عملية سهلة وسريعة، تستغرق عادة حوالي يومين. يتم إنتاج اللقاح بطريقة كيميائية لا تُستعمل فيها خلايا أو فيروسات. نفس أدوات الإنتاج يمكن استخدامها دون أي تعديل لإنتاج لقاحات م.آر.إن.إي ضد أي جراثيم مسببة لأمراض معدية أو ضد أي سلالات متحورة (متغيرة).
مما سبق ذكره يظهر أن تركيبة لقاح الحمض النووي الريبوزي المرسال (م.آر.إن.إي) تسمح بالاستجابة السريعة والمرنة ضد تفشي أي أمراض معدية.
محتوى لقاحات الحمض النووي الريبوزي (آر.إن.إي) ضد مفت-19 هو أبسط وأنظف محتوى لقاحٍ عرفته البشرية
على عكس اللقاحات التقليدية، مثل اللقاحات التي تحتوي على الجراثيم نفسها المسببة للأمراض، فإن لقاحات م.آر.إن.إي لا تحتوي على مكونات فيروسية أو بكتيرية (مثل البروتينات والمحفزات الفيروسية، والمادة الوراثية للفيروسات، والمواد المكونة لغشاء الفيروسات) ، والمواد الحافظة (مثل الثيميروسال، الفينول، 2-فينوكسي إيثانول)، ومواد معطلة (مثل فورمالدهيد)، ومضادات حيوية، ومخلفات الخلايا (مثل بروتينات الخميرة والبيض)، والجيلاتين، وبقايا المَصْل (مثل الألبومين) ، أو المواد المساعدة على تنشيط المناعة (مثل هدروكسيد الألمنيوم). الدهنيات المغلفة للقاح م.آر.إن.إي، وإلى حد ما م.آر.إن.إي نفسها، هي من تقوم بدور تنشيط المناعة الفطرية.
الإضافات الوحيدة المستخدمة للحفاظ على صلاحية لقاحي بيونتك وموديرنا، هي أملاح طبيعية (مثل محلول مخفف الفوسفات الملحي) وسكر القصب (السكروز).
هناك ميزة إضافية أخرى للقاحات م.آر.إن.إي، وهي أنها تنتج المُسْتضد “المستهدف” فقط، وبالتالي تنشط مناعة مكتسبة (أجسام مضادة وخلايا تائية) ضد المستضد المستهدف فقط. في المقابل، تتطلب العديد من اللقاحات التقليدية، تكوين أو تلقيح بروتينات إضافية عديدة في الجسم الى جانب المستضد المستهدف، وبالتالي تتكون أجسام مضادة وخلايا تائية ضد تلك البروتينات الإضافية غير المُستهدفة، مما قد تترتب عليه أضرار جانبية. هذا هو الحال على سبيل المثال بالنسبة للقاحات التي تعتمد على ناقلات الفيروسات الغُدَّانِية، واللقاحات التي تستخدم تقنية “المشبك الجزيئي” لتثبيت المستضد الذي تم تلقيحه.
بالنسبة لتقنية “المشبك الجزيئي”، فقد تم استخدامه لإنتاج لقاح “يو.كيو-سي.إس.إل ڤي451” ضد مفت-19 من قِبَل جامعة كوينزلاند الأسترالية بالتعاون مع شركة سي-إس-إل. فحوصاتٌ لتشخيص الإصابة بفيروس نقص المناعة التي أجريت على عدد من المشاركين في التجارب السريرية للقاح “يو.كيو-سي.إس.إل ڤي451″، أظهرت نتائج إيجابية ’مضللة’. السبب في فحوصات فيروس نقص المناعة المضللة، هو أن لقاح “يو.كيو-سي.إس.إل ڤي451” يتكون من البروتين الشوكي لفيروس التاج الذي تم إلصاقه بجزء من البروتين السكري-41 لفيروس نقص المناعة، مما أدى الى إنتاج الملقحين به لأجسام مضادة ليس ضد البروتين الشوكي لفيروس التاج فحسب، بل كذلك ضد البروتين السكري-41 لفيروس نقص المناعة البشرية. هذه الفحوصات التي تعتمد على كشف الأجسام المضادة المكونة ضد فيروس نقص المناعة، تجعل من الصعب جدا التفريق بين المصابين فعلا بفيروس نقص المناعة وبين الذين أظهروا نتائج إيجابية مضللة بسبب لقاح “يو.كيو-سي.إس.إل ڤي451” ضد مفت-19 دون أن يكونوا أصيبوا بفيروس نقص المناعة. لهذا السبب اتخذت الحكومة الأسترالية قرارا فوريا بإنهاء عقد شراء لقاح “يو.كيو-سي.إس.إل ڤي451” وعدم استعماله للتلقيح الجماعي لشعبها.
ناقلات الفيروسات الغُدَّانِية التي تُستخدم كوسيلة لإيصال المستضد المُستهدف الى الخلايا، تحفز تكوين أجسام مضادة وخلايا تائية ضد مستضدات الفيروس الغدي أيضا، والتي يمكن أن تهيمن على المناعة المكتسبة ضد مستضد الجرثوم المستهدف الذي تم إدخاله للخلايا عن طريق ناقلات الفيروسات الغُدَّانِية. بالإضافة إلى ذلك، فإن المناعة الموجودة مسبقًا ضد ناقلات الفيروسات الغُدَّانِية بسبب إصابات سابقة بأنواع من الفيروسات الغدائية المتعددة و/أو بسبب تطعيمات سابقة بلقاحات تعتمد ناقلات الفيروسات الغُدَّانِية، غالبًا ما تتسبب في إضعاف كمية إنتاج المستضد المستهدف الذي تنقله ناقلات الفيروس الغدي والمناعة المكتسبة ضده، وقد تُحدث (أي المناعة الموجودة مسبقًا ضد ناقلات الفيروسات الغُدَّانِية) آثارًا جانبية خطيرة.
علاوة على ذلك، بالمقارنة مع اللقاحات التي تعتمد استعمال الجرثوم المُضعّف (بحيث لا يسبب مرضا) أو تعتمد على حمض نووي ريبوزي منقوص الأكسجين (دي.إن.إي)، مثل اللقاحات القائمة على ناقلات الفيروسات الغدية، وبالمقارنة مع العديد من العدوى الفيروسية الطبيعية، فإن الحمض النووي الريبوزي المرسال (م.آر.إن.إي) المُلقح لا يُدمج في المادة الوراثية للخلايا.
عملية إدماج المعلومة المشفرة في الحمض النووي الريبوزي (آر.إن.إي) في المادة الوراثية للخلايا يحتاج الى خطوتين: أولا أن تُحول آر.إن.إي إلى حمض نووي ريبوزي منقوص الأكسجين (دي.إن.إي)، وهذه العملية تحتاج لـناسخ عكسي، أحد الحفَّازات (بروتينات) التي تنتجها بعض الفيروسات، ولا تنتجها خلايا الانسان أو الحيوان. ثم في الخطوة الثانية، غالبا ما يحتاج دمج حمض نووي ريبوزي منقوص الأكسجين (دي.إن.إي) الفيروسي في المادة الوراثية للخلايا الى حفَّاز (بروتين) فيروسي، يسمى مُدمج. لقاحات آر.إن.إي لا تحتوي على أي من هذه الحفَّازات الفيروسية، لا الناسخ العكسي ولا المُدمج.
وأخيرا وليس آخرا، مادة م.آر.إن.إي المغلفة في الجسيمات الدهنية النانوية، والبروتين الشوكي لفيروس التاج الذي تنتجه م.آر.إن.إي، يتواجدون بشكل عابر في الخلايا؛ إذ كل هذه المواد تتحلل كلية في غضون ساعات إلى بضعة أيام، وبالتالي لا تبقى في الجسم أي بقايا للقاح م.آر.إن.إي. فقط المناعة المكتسبة التي يحفزها اللقاح (الخلايا البائية المنتجة للأجسام المضادة والخلايا التائية) هي التي تدوم في الجسم لفترة (قد تطول أو تقصر)، وتكون جاهزة لمواجهة أي عدوى بفيروس التاج.
مما سبق تبيانه، فإن لقاح م.آر.إن.إي يمكن اعتباره أبسط وأنظف لقاح تم تطويره على الإطلاق، وأشدها تألقا.
التحسينات المطلوبة في لقاحات آر.إن.إي
يمكن اعتبار لقاحي بيونتك وموديرنا ضد مفت-19 على أنها الجيل الأول من لقاحات الحمض النووي الريبوزي ضد أمراض معدية، والتي يجب أن تتبعها أجيال أخرى من لقاحات الحمض النووي الريبوزي بخاصيات أحسن. وفيما يلي نقاش مختصر لبعض التحسينات المطلوبة:
لقاحات حمض نووي ريبوزي تستطيع تحمل درجة حرارة تُسَهِّل عمليات الشحن والتخزين
أحد أهم السلبيات في لقاحات م.آر.إن.إي المغلفة في دهنيات هو درجة البرودة الشديدة المطلوبة لتخزينها (60 الى 80 درجة مئوية تحت الصفر بالنسبة للقاح بيونتك-فايزر، و20 درجة مئوية تحت الصفر بالنسبة للقاح موديرنا). هذه الخاصية تُصَعِّب عمليات الشحن والتخزين وتجعلها مكلفة. المجمدات لغاية 20 درجة مئوية تحت الصفر، وخاصة مجمدات 70 درجة مئوية تحت الصفر، ليست من المعدات المتوافرة في كل المرافق الطبية حتى في الدول المتقدمة؛ والعديد من المناطق، خاصة في البلدان النامية، تفتقر تقريبًا بشكل كامل إلى سلسلة تبريد تمكن تخزين اللقاح وشحنه عبر مسافات طويلة.
شركة كورفاك الألمانية المتخصصة في تطوير علاجات تعتمد على الحمض النووي الريبوزي، أعلنت عن تطوير لقاح ضد مفت-19، يسمى “سي.ڤي.إن.كوف”، يخضع حاليا للمرحلة 2ب/3 من التجارب السريرية، ويمكن تخزينه في 5 درجة مئوية فوق الصفر لمدة ثلاثة أشهر دون أن يفقد صلاحيته. هذه النتائج تُعتبر تطورا مشجعًا، إلا أنه ليس معلوما إذا كان استقرار صلاحية هذا اللقاح في درجة حرارة مرتفعة نسبيا كان على حساب إضافة بعض المواد الحافظة.
لقاحات حمض نووي ريبوزي التي لا تقي ضد المرض فحسب، بل تمنع أيضًا العدوى بالفيروس
نقطة أخرى سلبية في لقاحات مفت-19 الحالية، هي طريقة التطعيم، حيث يجب حقنها في العضلات.
التطعيم في العضل لا يؤدي لتحفيز المناعة المخاطية، والتي من أهم خاصياتها إفراز أجسام مضادة فصيلة “أ” (أجسام مضادة مُفرزة فصيلة “أ”) التي توفر الحماية ضد الجراثيم (منها الفيروسات) داخل الأسطح المخاطية للجهاز – مثلا – التنفسي والمجرى الهوائي.
فعلى الرغم من أن لقاحات الحمض النووي الريبوزي ضد مفت-19 يمكن أن تقي من المرض، إلا أنه من المحتمل جدًا أنها غير قادرة على منع إصابة الأشخاص الملقحين بالعدوى وقدرة الفيروس على العيش في أنسجة الأنف والحلقوم. من ثم فإن الأشخاص الذين تم تطعيمهم، قد يصابون بالعدوى دون أن تظهر أعراض مفت-19، ومن ثم قد يظلون قادرين على نقل الفيروس من خلال الرذاذ التنفسي، وإصابة أناس آخرين به.
إذًا هناك حاجة ماسة لتطوير لقاح آر.إن.إي يمكن تطعيمه عن طريق الأنف مثلا، لأن هذه الطريقة في التلقيح تحفز المناعة المخاطية. من أجل تقليل ظهور أضرار جانبية محتملة للتلقيح الأنفي، يمكن إجراؤه (أي التطعيم عن طريق الأنف) كتلقيح داعم ثانٍ، بعد أسابيع قليلة من التطعيم الأول في العضل بنفس لقاح الحمض النووي الريبوزي.
فهرس المصطلحات الأعجمية
- بيونتك = BioNTech
- فايزر = Pfizer
- موديرنا = Moderna
- “م.آر إن إي” = mRNA
- الحمض النووي الريبوزي (“آر إن إي) = Ribonucleic acid, RNA
- مفت-19 = كوفيد-19 = COVID-19
- جسيمات دهنية نانوية (جدن) =Lipid nanoparticles, LNPs
- فورمالدهيد = formaldehyde
- مصل = Serum
- ناقلات الفيروسات الغدانية = adenoviral vector
- “المشبك الجزيئي” = ‘molecular clamp’
- يو.كيو-سي.إس.إل ڤي451 = UQ-CSL V451
- جامعة كوينزلاند الأسترالية = The University of Queensland, Australia
- شركة سي-إس-إل = Company CSL
- البروتين السكري-41 = Glycoprotein 41
- حمض نووي ريبوزي منقوص الأكسجين (دي.إن.إي) = (Deoxyribonucleic acid (DNA
- ناسخ عكسي = reverse transcriptase
- الحفَّازات = enzymes
- مُدمج = integrase
- كورفاك = CureVac
- “سي.ڤي.إن.كوف” = CVnCoV
- أجسام مضادة فصيلة “أ” = (Immunoglobulin A (IgA
- أجسام مضادة مُفرزة فصيلة “أ” = (secretory IgA (sIgA
- “متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد الشديد لفيروس التاج-2” = Severe Acute Respiratory Syndrome Coronavirus 2
- (ماتحفي-2) = SARS-CoV-2