اتقوا الله في القطط يا مشايخ، لا تفتوا بقتلها، أنتم تتحملون وزر قتلها!

- «قول الشيخ أنه “يشترط في جواز قتل القطط المؤذية عدم وجود وسيلة أخرى للتخلص من ضررها إلا بالقتل”، هي بمثابة رخصة لقتل القطط، ففي الغالب لن يلتفت السائل للشرط المذكور ».
عجِبْت لكثرة استفتاء مسلمين في حكم قتل القطط “المؤذية”، وعجبي أكبر لمشايخ يرخصون لهم قتلها.
ما هو نوع الأذى الذي يريدون بسببه قتل القطط
أولا وقبل كل شيء، يجب التنبيه الى أن أذى القطط الذي يتحدث عنه الذين يريدون قتل القطط، والذي يجيز بموجبه المشايخ قتل القطط، ليس أذًى بجسم الإنسان نفسه، فكل عاقل يعلم أن القطط ليست كالكلاب مثلا، فهي لا تهاجم الإنسان، بل تخافه وتهرب منه وتختبئ عند رؤيته. أما القطط التي ألفت الناس، فإنها وإن كانت لا تهرب منهم، لكنها أيضا لا تطاردهم ولا تهاجمهم، بل في الغالب تريدهم أن يداعبوها ويطبطبوا عليها. فالقطط لشدة قربها من الإنسان، لها ارتباط حميمي به، فقد قال عنها الرسول: «إنَّها لَيستْ بِنَجِسٍ، إنَّما هِيَ من الطَّوافِينَ والطَّوَّافَاتِ عليكم» (سنن الترمذي). والصحابي عبد الرحمن بن صخر الدوسي، كُنِّي بأبي هريرة لأنه كانت له هرة تلازمه ويداعبها، فقد سُئل أبا هريرة عن سبب كنيته، فقال: “كُنْتُ أَرْعَى غَنَمًا لِأَهْلِي، فَكَانَتْ لِي هُرَيْرَةٌ أَلْعَبُ بِهَا، فَكَنَّوْنِي بِهَا”. كما قال أبو هريرة: “كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونِي أَبَا هِرٍّ” (سير أعلام النبلاء للذهبي).
وكما هو معلوم أيضا، فالقطط لا تلطم إنسانا أو تخدشه إلا دفاعا عن نفسها، أي إذا لم يتركها في حالها وأراد لمسها أو إمساكها أو حملها دون رغبة منها أو محاولته الاقتراب من أطفالها أو أخذهم، وحتى في هذه الحالة، فالقطة ليست كالكلب، فهي بمجرد ما يتركها الشخص في حالها، تتوقف عن الضرب وتهرب. فالقطة بطبيعتها ليست عدائية تجاه الإنسان، والجراح التي تسببها خلال الدفاع عن نفسها طفيفة وسطحية لا تصيب إلا طبقات الجلد.
فالأذى الذي يتحدث عنه الذين يريدون قتل القطط، والذي يجيز بموجبه المشايخ قتل القطط، هو أذى بحق ممتلكات الانسان، وليس بجسم الإنسان نفسه. وأكثر ما يشتكي منه السائلون هو اصطياد قطط لبعض الحيوانات مما يربون، كالحمام وصغار الدجاج، الخ.
شبهات المجوِّزين لقتل القطط “المؤذية” والرد عليها
من أهم ما استدل به المرخصون لقتل القطط، حديثين للرسول صلى الله عليه وسلم، الأول: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» (رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما)، والحديث الثاني: «قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ» (صحيح البخاري).
الاستدلال بهذين الحديثين باطل جملة وتفصيلا، ولا يقومان البتة حجةً على جواز قتل القطط “المؤذية”، وذلك للأوجه التالية:
أولا، حديث «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» لم يتطرق البتة لعقوباتٍ تجاه من تسبب في ضرر الغير، فكيف يُستنتج من الحديث قتل القطط – أو الحيوانات عموما – المسببة لضرر؟ وهل إذا تسبب إنسانٌ في ضرر إنسانٍ آخر يكون حكمه أن يُقتل استنادا لهذا الحديث؟ ثم إذا سلمنا جدلا بصحة استنتاجكم من الحديث، فهل القتل هو العقوبة الجائزة أو الواجبة أيًّا كان نوع الضرر؟
ثم إن حديث «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» لا خلاف عند المسلمين أنه خطاب موجه للمكلفين، والمكلفون هم البشر البالغين العاقلين، فكيف يُحمل على الحيوانات غير المكلفة؟ ثم إن نوع العقوبات التي تُنزل على المكلفين من البشر الذين تسببوا في ضرر الغير، لا تؤخذ البتة من هذا الحديث (إذ الحديث لم يتطرق للعقوبات)، وإنما يُرجع للنصوص من القرآن والسنة التي حددت نوع الضرر الذي يستحق العقوبة – فليس كل ضرر يستحق عقوبة، فهناك ما يستوجب مثلا الاستغفار فقط أو الكفارة – ونوع العقوبة التي يجب أو يجوز إنزالها.
ثانيا، حديث «قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ»، يستدل به البعض ليقول إنه جاز لأحد الأنبياء قتل النملة التي قرصته، وأن عتاب الله كان على معاقبة ذلك النبي لخلية النمل كلها بدلا من الاكتفاء بقتل التي قرصته.
الاستدلال بهذا الحديث باطل أيضا، فعقاب النملة بالحرق لأنها قرصت نبيًّا، هي من أخبار شرائع الأمم السابقة قبل بعثة الرسول، ومن ثم فالمسلمون غير مطالبين بها. فشرع من قبلنا – أي شرائع الأنبياء والرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم – ليست شرعا لنا. وحتى لو سلمنا برأي من يقول بأن “شرع من قبلنا شرع لنا”، فإن أصحاب هذا الرأي حصروا التقيد بالشرائع السابقة فقط في الأحكام التي لا تخالف ما جاء به الإسلام. ونحن نعلم أن الإسلام حرَّم العقاب بالحرق، سواء حَرْق الانسان أو الحيوان، فعن عبد الله بنِ مسْعُود قَال: رأى – رسول الله – قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حرَّقْنَاهَا، فَقال: «مَنْ حرَّقَ هذِهِ»؟ قُلْنَا: نَحْنُ، قَالَ: «إنَّهُ لا ينْبَغِي أنْ يُعَذِّب بالنَّارِ إلَّا ربُّ النَّارِ» (رواه أَبُو داود). ومن ثم فحديث الرسول الذي يحرم حرق النمل، يُبطل جملة وتفصيلا الاستدلال بالحديث عن نبيٍّ حرق نملاً آذاه، لتجويز قتل القطط المؤذية.
وقد يتشبث من يتبنوا قاعدة “شرع من قبلنا شرع لنا” بصحة الاستدلال بحديث حرق نبيٍّ للنمل الذي قرصته أحدها، فيقولوا بأن عقوبة الحرق هي وحدها التي نُسخت، لكن تبقى عقوبة قتل الحيوان الذي آذى إنسانا قائمة، ويُقتل بطريقة أخرى غير الحرق. والرد على هذا الادعاء كالتالي:
لو سلمنا جدلا أنه يجوز قتل النمل – بطريقةٍ غير الحرق – استنادا لحديث «قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ»، فهل ينسحب ذلك على القطط أيضا بحيث يجوز قتل من تسببت في أذًى – وبغض النظر عن نوع الأذى –؟ أم هو حكم خاص بالنمل فقط، ويمكن في أقصى الأحوال إسقاطه على بعض الحشرات، قياسا على أن النمل من فصيلة الحشرات (مع العلم أن هناك حشرات نهى الرسول عن قتلها)، وخصوصا وأن لدينا حديثا ينهى عن قتل عصفور فما فوقه كما سيأتي؟ فتعميم هذا الحكم، إن سلمنا به جدلا – وهو حكم خاص بالنمل وخاص بأحد الأمم السابقة قبل بعثة الرسول – على كل الحيوانات، يحتاج لدليل يخرج الحكم من الخاص الى العام، أي يخرجه من كونه حكما خاصا بالنمل، الى حكم يشمل كل الحيوانات المؤذية.
الأدلة على حرمة قتل القطط حتى لو اعتدت على ممتلكات الناس
الصحيح أنه لا يجوز قتل القطط التي تتسبب في ضرر، وذلك للأدلة التالية:
قاعدة كلية وضعها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ» (صحيح مسلم). و” الْعَجْمَاءُ” هي البهيمة، ويطلق اللفظ على كل الحيوانات، لأنها لا تتكلم كالإنسان. و” جَرْحُهَا ” يعني ما تُسَبِّب من جرح للغير أو إتلاف لممتلكات. و”جُبَارٌ” تعني هدر، أي لا غرام ولا عوض على ما أتلفت الحيوانات أو أفسدت ولا يُقتص منها. واستنبط العلماء من هذا الحديث سقوط عقاب الحيوانات على فسادٍ أحدثته. يقول النووي في شرحه لحديث «الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ»: [قوله صلى الله عليه وسلم: «الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ». العجماء بالمد هي: كل الحيوان سوى الآدمي، وسميت البهيمة عجماء لأنها لا تتكلم. والجبار – بضم الجيم وتخفيف الباء – الهدر. فأما قوله صلى الله عليه وسلم: «الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ» فمحمول على ما إذا أتلفت شيئا بالنهار أو أتلفت بالليل بغير تفريط من مالكها، أو أتلفت شيئا وليس معها أحد، فهذا غير مضمون وهو مراد الحديث. فأما إذا كان معها سائق أو قائد أو راكب فأتلفت بيدها أو برجلها أو فمها ونحوه، وجب ضمانه في مال الذي هو معها، سواء كان مالكا أو مستأجرا أو مستعيرا أو غاصبا أو مودعا أو وكيلا أو غيره، إلا أن تتلف آدميا فتجب ديته على عاقلة الذي معها، والكفارة في ماله. والمراد بجرح العجماء إتلافها، سواء كان بجرح أو غيره. قال القاضي: أجمع العلماء على أن جناية البهائم بالنهار لا ضمان فيها إذا لم يكن معها أحد، فإن كان معها راكب أو سائق أو قائد فجمهور العلماء على ضمان ما أتلفته، وقال داود وأهل الظاهر: لا ضمان بكل حال إلا أن يحملها الذي هو معها على ذلك أو يقصده، وجمهورهم على أن الضارية (أي المؤذية العنيفة) من الدواب كغيرها على ما ذكرناه. وقال مالك وأصحابه: يضمن مالكها ما أتلفت، وكذا قال أصحاب الشافعي: يضمن إذا كانت معروفة بالإفساد، لأن عليه ربطها والحالة هذه. وأما إذا أتلفت ليلا فقال مالك: يضمن صاحبها ما أتلفته. وقال الشافعي وأصحابه: يضمن إن فرط في حفظها، وإلا فلا. وقال أبو حنيفة: لا ضمان فيما أتلفته البهائم لا في ليل ولا في نهار، وجمهورهم على أنه لا ضمان فيما رعته نهارا، وقال الليث وسحنون: يُضمن] (انتهى الاقتباس).
فأحكام هذا الحديث الصحيح تدور بين: هل هناك ضمان وعوض أو دية على صاحب حيوانٍ أفسد ممتلكات شخص آخر أو حتى جرحه أو قتله، أم ليس عليه دفع أي شيء. ولم يأمر الحديث بعقاب أو قتل البهائم التي تُسبب الأذى. والأولى أن يطبق هذا الحديث على القطط، فيُحتمل في أقصى الأحوال، جواز الحكم بأن يعوض صاحبُ القطة مالِكَ الفراخ أو الحمام التي قتلتها أو جرحتها قطته. وإن لم يكن للقط مالك، فضررها هدر، كما حكم الرسول، ولا تُقتل القطة بسببه.
وأقصى ما يمكن فعله مع القطط التي ليس لها مالك، وتعتدي باستمرار على ممتلكات الناس، من حمام ودجاج الخ، أن يُحتال عليها للإمساك بها، فهناك مصائد للإمساك بمختلف الحيوانات دون إيذائها أو قتلها، ثم إطلاق سراحها في أماكن غير آهلة بالسكان، لكنها (أي تلك الأماكن) تتوافر على مقومات العيش الضرورية للقطط، كالماء والحشرات أو الطيور البرية أو الأرانب، الخ. مراعاة توافر شروط القدرة على العيش للقطة في المكان الذي تُنقل إليه، واجب شرعا، ويحاسب عليه من لم يراعيه، هنا ينطبق قول الرسول «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»، فالخطاب هنا للمكلف، الإنسان، بأن يبحث عن وسيلة لتفادي الضرر الذي تحدثه بعض القطط، لكن دون التسبب في إيذائها، كأن ينقلها مثلا لمكان تَمُوت فيه عطشا أو جوعا، فهذا إثم عظيم، فقد قال رسول الله: «دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» (صحيح البخاري)، و الخشاش ما تأكله القطط مما تجده في الارض او تصطاده!
ثم لدينا حديث الرسول: «ما من إنسانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فما فَوْقَها بغيرِ حَقِّها، إلَّا سَأَلهُ اللهُ عَنْها يومَ القيامةِ»، قيل: يا رسولَ اللهِ، وما حَقُّها؟ قال: «حَقُّها أنْ يذبحَها فَيأكلَها، ولا يَقْطَعَ رَأْسَها فَيَرْمِيَ بِه» (صحيح الترغيب والترهيب، تحقيق الألباني). فالرسول لم يبح قتل الحيوانات، من حجم عصفور فما فوقه، إلا للأكل، والقطط محرم أكلها كما هو معلوم، ومن ثم محرم قتلها. وأي استثناء من هذا العموم يحتاج لدليل خاص يخرجه من هذا الحكم العام. وبخلاف أحاديث خاصة استثنت بعض الحيوانات عن هذا الحكم العام، بحيث أجازت قتلها كالوزغ وبعض أنواع الحيات، فإنه ليس لدينا أي دليل يخرج القطط من هذا الحكم العام القاضي بحرمة قتل الحيوانات إلا للأكل.
وكما هو معلوم فقتل الحيوانات للأكل له أحكامه الخاصة، من بينها ذبحها بطريقة رحيمة سريعة دون تعذيبها ولا ترويعها، فقد قال صلى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وعلة جواز قتل بعض الحيوانات لغير الأكل هو أنها بطبيعتها مؤذية للإنسان نفسه، وأذاها على صحة الإنسان أو حياته مؤكد. فالحيَّات السامة مثلا لسعتها قد تؤذي لوفاة الإنسان إذا لم يحصل على العلاج المناسب فورا، مع العلم أن في عهد الرسول لم يكن أصلا علاج للسعات الحيات السامة. أما القطط، فهي حتى لو خدشت إنسانا، فجرحها ليس بالقاتل، ولا يحدث عاهات، وإنما جروحا سطحية طفيفة.
ما هو الضرر الذي يجيز قتل بعض القطط؟
من الحديثين الأخيرين يتبين أنه لا يجوز قتل قطة لأنها اعتدت على ممتلكات الناس من دجاج أو حمام، أو خدشت شخصا. لكن هناك حالات فرضية تجيز قتل القطط، أهمها إصابتها (أي القطط) بداء مُعدي، بحيث تنقل جراثيم مسببة للأمراض للإنسان. إلا أنه في هذه الحالة لا يوكل قتلها لعامة الناس، بل تتكفل الدولة بذلك، بحيث تُقتل بطريقة رحيمة تعتمد مواد التخدير.
أما إذا كان ضرر القطط يكمن في تكاثرها المتزايد، بحيث يحصل مثلا خلل بيئي، بأن يُخشى انقراض بعض الأنواع من الحيوانات الصغيرة لشدة اصطيادها من قِبَل القطط المتزايدة العدد، فهنا الأولى أن يُلجأ الى عملية تعقيم لنسبة كبيرة من القطط حتى يحد من وثيرة تناسلها.
مشايخ قليلي الفطنة متهورون في الفتوى يتحملون وزر قتل القطط
من العبارات الجوفاء التي يضيفها المشايخ حين يجيزون قتل القطط التي تقتل دجاج أو حمام الناس، قولهم “يشترط لذلك عدم وجود وسيلة أخرى للتخلص من ضررها إلا بالقتل”.
إلى جانب أنه لا يجوز قتل القطط لإتلافها ممتلكات الناس كما تبين من الأدلة، فالتخلص من ضررها قطعا مقدور عليه بوسائل غير القتل. فالتحايل على قطة للإمساك بها ثم نقلها لمكان بعيد يتوافر على مقومات العيش للقطة، أمر مقدور عليه قطعا، وبالتالي لا يجوز للمشايخ تخيير المتضرر بين قتل القطة أو الإمساك بها ونقلها لمكان بعيد تستطيع العيش فيه، بل يجب أن يقتصروا على الإفتاء بالحل الثاني والتحذير من الحل الأول، أي التحذير من قتل القطط وتبيان حرمة ذلك للأدلة المذكورة أعلاه.
ثم حتى لو افترضنا جدلا أنه يجوز قتل القطة المسببة لضرر، فعلى الشيخ المُفتي بذلك تحديد طرق القتل الرحيمة، ولا يترك ذلك للسائل. فمن يستفتي أصلا في قتل القطط، هو يكاد يكون عديم الرحمة والورع، وبالتالي سيقتلها بأسهل طريقة بالنسبة له هو، وليس بأسهل وأسرع طريقة بالنسبة للقطة، فقد يرجمها بالحجارة حتى الموت، أو يؤكلها سُمًّا تموت به ببطء بعد آلام شديدة وطويلة، أو قد يغرقها في الماء، الى غير ذلك من وسائل القتل الوحشية. الشيخ الفطن يجب أن يدرك ذلك، خصوصا أنه يعلم أن المسلمون يعيشون اليوم في مجتمعات تتسم بالعنف وقلة الإيمان والورع والتقوى.
فالشيخ الفطن يجب أن يدرك أن الانسان العاقل التقي لا يسأل أصلا عن قتل قطة لأنها أكلت عصفوره أو حمامته، بل الانسان سوي الفطرة يدرك بداهة أن فعل القطة غريزي، وأنه هو المسؤول على الحفاظ على حيواناته بحيث لا تصل إليهم القطط، وأنه إن افترست قطة من حين لآخر أحد دواجنه، فليحتسبها صدقة، فالرسول قال: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» (صحيح مسلم). فالذي يسأل عن جواز قتل القطط، عازم في الغالب على قتلها، ويحتاج فقط لفتوى تسوغ له ذلك ليطمئن بها ضميره. فالسائل لن يجتهد للبحث عن سبل للتخلص من القطة المؤذية غير القتل، بل سيبادر لقتلها. ومن ثم فعبارة الشيخ أنه “يشترط في جواز قتل القطط المؤذية عدم وجود وسيلة أخرى للتخلص من ضررها إلا بالقتل”، هي بمثابة رخصة لقتل القطط، ففي الغالب لن يلتفت السائل للشرط المذكور.
فحين يُسأل الفقيه في مسألة، أيًّا كانت المسألة، فعليه أن يفطن للغرض من السؤال، وأن يربط السؤال بالواقع المُعاش وبطبيعة المجتمع وأخلاق الناس وضعف الإيمان وقلة الورع، وما يترتب على فتواه في هذا الواقع، لكيلا يُستدرج لإصدار فتوى يستعملها السائل لتسويغ ما يريد فعله من جريمة أو فساد. فحتى لو افترضنا جدلا أنه يجوز قتل القطط المؤذية إذا لم يكن هناك سبيل آخر للتخلص منها، فعلى الفقيه ألا يفتي بجواز قتلها، لأن الغالب أن السائل لن يجتهد للبحث عن وسائل للتخلص من ضررها دون القتل. وانظر مثلا لفطنة وفقه ابن عباس رضي الله عنه، فكما روى القرطبي في تفسيره للآية {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (سورة النساء): [جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَلِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا تَوْبَةٌ؟ قَالَ ابن عباس: لَا، إِلَّا النَّارَ. فَلَمَّا ذَهَبَ السائل، قَالَ لَهُ جُلَسَاؤُهُ: أَهَكَذَا كُنْتَ تُفْتِينَا؟ كُنْتَ تُفْتِينَا أَنَّ لِمَنْ قَتَلَ تَوْبَةً مَقْبُولَةً. فقَالَ ابن عباس: إِنِّي لَأَحْسَبُهُ رَجُلًا مُغْضَبًا، يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا. فَبَعَثُوا فِي إِثْرِهِ فَوَجَدُوهُ كَذَلِكَ] (أنتهى الاقتباس). فلفطنة ابن عباس أدرك من ملامح السائل أنه عازم على قتل مسلم، فجاء يسأل هل سيغفر الله له جريمة القتل إن قام بها. فلو ذُكِرَ الحكم الشرعي مجردا من الواقع، أي دون الأخذ باعتبار حال السائل وغرضه، لكان سيكون القول بقبول الله توبة القاتل بمثابة رخصة لارتكاب الجريمة. … للذكر هناك نصوص تشير الى أن الله يقبل التوبة عن أي ذنب، لمن شاء، كقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (سورة الفرقان)؛ وقوله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} (الزمر).