علوم شرعية وفقهية

الحاكم الذي أقدسه وتجب له الطاعة المطلقة

أينما نظرتُ حولي، يمْنَة ويسْرة، وجدت مسلمين اتخذ كل واحد منهم – إلا قلة قليلة – حاكِمًا إلَهًا يمجده ويعظمه ويذود عنه بشراسة في المجالس وعلى المنصات الإعلامية ووسائل التواصل على شابكة الحواسيب، يُسَوِّقون كل صفقة تجارية أو معمارية أو سياسية أو صناعية قام بها حاكمهم المقدس على أنها فتح مبين وإنجاز تاريخي، يضخمونها ويقومون لها بحملات دعاية مُفرطة. كُلّ يسبح بحمد حاكمه المقدس ليل نهار، يعادي من عاداه ويحب من أحبه، ويطيعه طاعة مطلقة. كل مسلمٍ حاكمه المقدس منزه عنده عن الخطأ، لا يجوز مراجعته ولا انتقاده في أي شيء ولا محاسبته، مهما قال أو فعل. الحاكم المقدس دائما على حق، لا يأمرونه أبدا بمعروف ولا ينهونه أبدا عن منكر، وإن وقع فِعْلٌ باطلٌ أو منكر عظيم لا يستطيعون إنكار حدوثه ولا تحسينه، فالفعل قطعا لم يقع بأمرٍ من حاكمهم المقدس ولا بعلمٍ منه، بل هو من صنيع موظفين ووزراء مفرطين، أو من صنيع مندسين ودول متآمرة، يريدون سُوءًا بالحاكم المقدس. أفعال كل حاكِمٍ مقدسٍّ كلها مباركة وسليمة وعبقرية وحكيمة عند عُبّادِه، وتنم عن حنكة سياسية ودهاء.

«عندما تقول شابة في تركيا “أتاتورك ليس إلهًا”….»

لما رأيت ما رأيت من اتخاذ كل مسلم – إلا القليل منهم – رئيسَ أو ملكَ أحد الدويلات في العالم الإسلامي إلَهًا، تحركت في نفسي لِوَهْلة سُنَّة القطيع، فأردت أن يكون لي أيضا حاكما إلَهًا كما لهم حُكَّاما آلهة. لكن من يا ترى الحاكم الذي يستحق التقديس وتجب له الطاعة المطلقة، الحاكم الذي يستحق أن أتخذه إلهًا؟

صفات الحاكم الذي يستحق أن يُقدس ويُتخذ إلَهًا

قلتُ على كل حال الحاكم الذي أريد تقديسه، الحاكم الذي أريد اتخاذه إلَهًا، يجب ألا يتسم بميزات مُقرفة يتميز بها البشر، فتذكرت قول التابعي مَالِك بن دِينَار للقائد المُهَلَّب بن أبي صفرة الأزدي، أحد ولاة خراسان في عهد الأمويين، حين رآه يمشي مُتَبَخْتِرًا: [أَوَّلُكَ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَآخِرُكَ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ، وَأَنْتَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ تَحْمِلُ الْعَذِرَةَ] (سير أعلام النبلاء)، فهل هناك حاكم في العالم الإسلامي لم تكن بدايته نطفة في رحِم امرأة، فوُلد كتلةً من لحمٍ ضعيفة تبكي وتصرخ، تتبول وتتغوط على نفسها، تحتاج لمن ينظفها ويكسيها ويطعمها ويسقيها؟ وهل هناك حاكم لا يحمل في كليتيه ومسالكه البولية بولا نتنًا نجسًا، ولا تحمل أمعائه الْعَذِرَةَ (الغائط)؟ هل هناك حاكم لا يحتاج يوميا لتفريع جسمه من تلك القاذورات، وما يصحب ذلك التفريغ من أصوات مقززة وروائح منتنة؟..

لا، الحاكم الذي يستحق التقديس يجب أن يكون منزها عن هذه الميزات المقززة التي نتسم بها نحن البشر!

الحاكم الذي أريد تقديسه، الحاكم الذي أريد اتخاذه إلَهًا، يجب ألا يموت وألا يتحول جسمه لجِيفَةٍ قَذِرَةٍ، ألا يتحول لجثة تنتفخ وتفرز رائحة كريهة، وتقتات منها الجراثيم والحشرات، لتتحلل فلا يبقى منها شيئا. لا، من يموت لا يمكن أن يكون مقدسا، ولا يستحق الطاعة المطلقة. إذا كان الحاكم لا ينفع نفسه، لا يستطيع رد الموت عن نفسه، فكيف سينفعني أنا! كيف ينفع الميتُ الحي، وكيف ينفع الميتُ الميتَ؟

الحاكم الذي أريد تقديسه، الحاكم الذي أريد اتخاذه إلَهًا، لا يجوز أن يكون ضعيفا مُحتاجا مثلنا نحن البشر العاديون: يحتاج للأكل والشرب والهواء والنوم والاستراحة ليستطيع البقاء على الحياة؛ يتعب، يمرض، يحتاج للعلاج، يحتاج لخدمة الغير وحمايتهم له؛ يحتاج لزوج وأبناء، تحركه الشهوات. .. لا، الإله يجب أن يكون منزها عن هذا كله! 

الحاكم الذي أريد تقديسه، الحاكم الذي أريد اتخاذه إلَهًا، يجب أن ينفعني بعد الموت، يقيني من العذاب ويمَكِّنني من الجنة. فهل الحاكم الذي سأقدسه وأتخذه إلَهًا سيكون معي لحظة حشرجة الموت فيواسيني ويبشرني بالجنة لحظة الاحتضار جَزَاءً على طاعتي له وتقديسي له؟ هل الحاكم الذي سأقدسه سيشفع لي عند الله يوم البعث، ويجادل عني يوم الحساب كما سأجادل عنه في الدنيا وأذود عنه؟

وهكذا جال فكري يعدد الصفات والميزات التي يجب أن يتسم بها الحاكم الذي أريد أن أقدسه وأتخذه إلَهًا، فرأيت نفسي فجأة وكأني من قوم إبراهيم الضالين التائهين، تذكرت مناظرة إبراهيم لهم مبيناً فساد معتقدهم في ألوهية الكواكب، وإشراكها مع الله في العبادة {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة الأنعام)، فأدركت أنني في حيرة من أمري كما كان قوم إبراهيم في حيرة من أمرهم، هم كانوا يبحثون عن إله من بين الكواكب المخلوقة، وأنا أبحث عن الألوهية والتقديس في بشر مخلوق مثلي.

سُنَّة القطيع: أريد حاكما إلَهًا كما لهم حُكَّامًا آلهة

أنَّبت نفسي، وقلت لها ما الذي حملك على هذا، كيف تبحثي عن بشر لتقدسيه وتتخذيه إلَهًا؟ فأدركت أنها السُّنَن، إنه ميول الانسان لسُنّة القطيع وذلك بمحاولة تقليد ما تمشي عليه العامة، دون البحث في مدى صواب أو بطلان ما يتبعونه وما يعتقدونه وما يقومون به، فتذكرت رواية الصحابي، أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، حيث قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: فَسِرْنَا مَعَهُ إلَى حُنَيْنٍ، قَالَ: وَكَانَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ لَهُمْ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضْرَاءُ، يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ، يَأْتُونَهَا كُلَّ سَنَةٍ، فَيُعَلِّقُونَ أَسْلِحَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا. قَالَ: فَرَأَيْنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِدْرَةً خَضْرَاءَ عَظِيمَةً، فَتَنَادَيْنَا مِنْ جَنَبَاتِ الطَّرِيقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، قُلْتُمْ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (سورة الأعراف)، إنَّهَا السُّنَنُ، لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُنَّةً سُنَّةً» (سنن الترمذي، مسند أحمد، سيرة ابن هشام).

أنا لم أرغب في تقديس حاكم من حكام المسلمين واتخاذه إلَهًا، إلا لما رأيت جماهير المسلمين تقدس الرؤساء والملوك وتتخذهم آلهة، فأردت أن أقلدهم ويكون لي مثل الذي لديهم، تماما كما أراد مسلمون حديثي العهد بالإسلام أن يكون لهم أنواطًا كما كان لقريش والقبائل المشركة أنواط. إنها سُنَّة القطيع، إنها الجاهلية، ..

لا، تبتُ إلى الله، لا أريد أي ملكٍ أو رئيسٍ إلَهًا، لا ابن سلمان ولا السيسي، ولا أردوغان ولا ابن زايد آل نهيان، ولا تميم بن حمد آل ثاني ولا محمد السادس، ..بل أقول كما قال إبراهيم لقومه {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

تأليه الحكام يكمن في طاعتهم فيما يخالف شرع الله

قد يقول البعض أنهم لم يتخذوا حكام المسلمين أربابا وآلهة، ولم يقدسوهم، فأرد عليهم أن العبودية للحكام تكمن في طاعتهم حين يحرموا ما أحل الله أو يحلوا ما حرم الله، والسكوتُ عن منكراتهم تقديسٌ لهم، فلما نزلت آية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (سورة التوبة). قال عَدِيّ بْنِ حَاتِم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ. فقَالَ الرسول: «أَجَلْ، وَلَكِنْ يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيَسْتَحِلُّونَهُ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَيُحَرِّمُونَهُ، فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ» (السنن الكبرى للبيهقي).

«تغير الأحْكام بتغير الحُكَّام»



 

جميع الآراء الواردة بهذا المقال تعبر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

Print Friendly, PDF & Email

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !
اظهر المزيد

د. هشام البواب

الدكتور هشام البواب، ناقد ومحلل سياسي واجتماعي مستقل . مقالاته تشمل موضوعات سياسية واجتماعية وفقهية وعلوم تجريبية :::::: بعض كتابات الدكتور هشام البواب في الرابط التالي: https://atanwir.com/منشورات-الدكتور-هشام-البواب ::::::: hicbou1@mailfence.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Enter Captcha Here : *

Reload Image

زر الذهاب إلى الأعلى