علوم شرعية وفقهية

الاحتفاء الرباني

بِسْمِ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى مَنْ لَا نَبيَّ بعدَهُ.. وَبَعْد:

لُطْفاً وكَرَمَاً.. عِش مَعي – أَخي القَارِئ- هَذهِ اللحَظَاتِ اليَسيرةِ..

تَخيَّلْ أنَّك دُعيتَ إلى ( وَليمةٍ خَاصةٍ بك) من أَحدِ الوجهاءِ.. سَواءٌ كانَ رئيساً أو وزيراً أو تاجراً.. فكيفَ سَيَكونُ اسْتِقْبالُك والتَرحيبُ بِكَ والاحْتِفاءُ بِكَ ؟!

ستجدُهُ يهشُّ ويبشُّ في وَجْهِكَ، وَسَتَرَى ذَلكَ مِنْ رَحَابةِ الصَّدرِ التي تَقرأُهَا في عَينيهِ، وابْتسامتِه فرحةً بمجيئِكَ.. وتَرَى من تَهيئةِ المَكَانِ والمراسيم المَعْروفَةِ من تَقديمِ ما لذَّ وطابَ من الطْعَامِ، وتَقديمِ أغْلى ما لَديه من الطَّيبِ والبُخورِ، ودَعْوةُ المُحبينَ والأقارِبِ، وهذا الترْحِيبُ والتَقْديرُ والاحْتفاءُ يَبدأُ مِنْ دِخولِكَ بَيته ويَنْتهي عِندَ خُروجِكَ.. كُلُ ذَلِكَ مِنْ أجْلِكَ..!!

وَللهِ الأَعْلَى المَثَلُ الأَعْلَى..

اللهُ الكَريمُ العَظيمُ العَزيزُ الغَفورُ..خَالقُ البَشَرِ كُلِّهِم.. سُبَحانَهُ وَتَعَالَى القُدُّوسُ السَّلامُ، سالِمٌ مِنْ مُشابهَةِ خَلْقِهِ، ومِنْ كُلِّ ما يُنافِي كَمالَهِ.. يَدْعُوكَ كُلَّ يَومٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ ليَحْتَفيَ بِكَ في بَيْتِهِ.. بَلْ احْتِفاؤهُ يَبْدَأُ مِنْ بَيْتِكَ.. مِنْ وِضُوءِكَ.. وَقَبْلَ أَنْ تَذْهَبَ إلَى بَيْتِهِ..

تَعَالَ مَعِيَ لِنَعيشَ لحَظَاتِ احتفاء الله بعباده ..

فَأوَلُ احْتَفَائِهِ.. يَحْتَفِي بِكَ إِذَا رَدَّدتَ الأذانَ مَعَ المُؤذِّنِ، بَلْ تَرْبَحُ شَفَاعَةَ الحَبيبِ ﷺ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بِن عَمْرُو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ قال: «إذا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ، فَقُولوا مِثْلَ ما يقولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فإنَّه مَن صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عليه بها عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الوَسِيلَةَ، فإنَّها مَنْزِلَةٌ في الجَنَّةِ، لا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مِن عِبادِ اللهِ، وأَرْجُو أنْ أكُونَ أنا هُوَ، فمَن سَأَلَ لي الوَسِيلَةَ حَلَّتْ له الشَّفاعَةُ» (رَواهُ مُسْلمٌ).

ثُمَّ يَحْتَفِي بِكَ وَأنْتَ تَتَوَضَّأُ فَتَسْقُطُ الذُنُوبُ مَعَ وضُوئِكَ، كَمَا فِي الحَدِيثِ الذِي رَوَاهُ أَبُو هُريْرَة رَضيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ ﷺ : «إِذَا تَوَضَّأَ العَبْدُ المُسْلِمُ، أَوِ المُؤْمِنُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِن وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بعَيْنَيْهِ مع المَاءِ، أَوْ مع آخِرِ قَطْرِ المَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِن يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مع المَاءِ، أَوْ مع آخِرِ قَطْرِ المَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مع المَاءِ، أَوْ مع آخِرِ قَطْرِ المَاءِ، حتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ» (رَواهُ مُسْلمٌ).

وَيزيدُ احْتِفَاءَهُ بِكَ أَنْتَ أَيُّهَا الْمُحْتَاجُ إِليهِ، أَنْتَ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ، قَالَ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ} (سورة فَاطِر).

يَحْتَفِي بِكَ سُبَحَانَهُ بَعْدَ الوِضُوءِ إذَا دَعَوتَ بِهَذَا الدُّعَاءِ، بَلْ تَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أَي بَابٍ شِئْت، عَنْ عُمَرَ بِن الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ النْبِي ﷺ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأْ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ: “أَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الَّلهَمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التْوَّابِينَ، وَاجْعَلَنِي مِنَ المُتَطهِّرينَ”، فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيةُ أَبْوابِ الجْنَّةِ، يَدْخُلُ مِنْ أيّهَا شَاءَ» (رَواهُ التْرْمِذِي).

وَيَسْتَمِرُ الاحْتِفَاءُ بِكَ وَيَزْدَادُ وَأَنْتَ تَمْشِي بِسَكِينَة وَوَقَارٍ إلَى بَيْتِهِ، قَالَ ﷺ: «…إذَا أتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَعلَيْكُم بالسَّكِينَةِ، فَما أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فَاتَكُمْ فأتِمُّوا» (رَواهُ البُخاريُ).

يُعْطيكَ سُبَحَانَهُ وَأَنْتَ مُقْبلٌ عَليهِ، وَأَنْتَ فِي طَريقِكَ إِليهِ يُعِدُّ لَكَ نُزُلاً مِنَ الجْنَّةِ، بَلْ يَرْفَعُ دَرَجَتَكَ، وَيَمْحُو سَيئَاتِكَ، ارع سَمْعَكَ لِهَذَا الحَديثِ، عَنْ أَبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن غَدَا إلَى المَسْجِدِ ورَاحَ، أعَدَّ اللَّهُ له نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّما غَدَا أوْ رَاحَ» (رَواهُ البُخاريُ).

بَلْ اسْمَعْ الحَديثَ الآخرَ، عَنْ عبد اللهِ بِن مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عنْهُ قَالَ، قَالَ ﷺ: «…وَما مِن رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إلى مَسْجِدٍ مِن هذِه المَسَاجِدِ، إلَّا كَتَبَ اللَّهُ له بكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عنْه بهَا سَيِّئَةً…» (رَواهُ مُسْلمٌ).

ثُمَّ يَحْتَفي بِكَ عنْدَ وِصُولِكَ إلَى بَيْتِهِ، فَتَدْخُلُ وَتَدْعُو لِنَفْسِكَ بِأنْ يَرْحَمَكَ الرَحيمُ سُبَحانَهُ، كَمَا عَلَّمَنَا المُصْطَفَى ﷺ إذْ قَالَ: «إذا دَخَلَ أحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لي أبْوابَ رَحْمَتِكَ، وإذا خَرَجَ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ مِن فَضْلِكَ» (رَواهُ مُسْلمٌ). فتَطْلُبُ الرحْمَةَ منْهُ إذا دخلت بَيته، وَتطْلُبُ الفَضْلَ مِنْهُ إذَا خَرَجْتَ مِنْ بِيتِهِ.

وَلَا زَالَ الاحْتِفَاءُ بِكَ مُسْتَمِراً وَأنْتَ فِي بَيتِهِ، فَتَدْعُو لَكَ المَلائِكةُ، وَأنْتَ تَنْتَظِرُ الصَلاةَ.. أَرَأَيتَ أيُّهَا المِسْكِينُ!! هَذَا الفَضْل الكَبير مِنَ اللهِ لَكَ أَنْتَ، وَمعَ ذَلِكَ تَجِدُ مَنْ يُقَصِّرُ في الصَلاةِ أو يَتَأخْرُ عَنْهَا.. عَنْ أَبي هُريرَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «المَلائِكَةُ تُصَلِّي علَى أحَدِكُمْ ما دامَ في مُصَلّاهُ، ما لَمْ يُحْدِثْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ له، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ. لا يَزالُ أحَدُكُمْ في صَلاةٍ ما دامَتِ الصَّلاةُ تَحْبِسُهُ، لا يَمْنَعُهُ أنْ يَنْقَلِبَ إلى أهْلِهِ إلَّا الصَّلاةُ» (رَواهُ البُخاريُ).

وَيحْتَفي بِكَ يَوم القيامَةِ، احْتِفاءاً خَاصاً أمامَ أعْينِ البَشَرِ فِي الحَرِّ الشَديدِ، والنَاسُ حُفَاةٌ عُراةٌ فِي الشمْسِ.. هَات فُؤادَكَ وَسمْعَكَ وَاقْرَأْ هَذَا الحَديثَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ…»، وذَكَرَ مِنَ هَؤلاءِ السَبْعَةِ: «وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ» (رَواهُ البُخاريُ).

ثُمَّ تَبْدَأُ تَقْتَرِبُ مِنْهُ وَتُكبر للْصَلاةِ، فَالصَلاةُ صِلَةٌ بَيْنَ العَبْدِ وَرَبِّهِ، فَيَحْتَفي بِكَ الكَبيرُ المُتَعَالُ، فَتَبْدَأُ بِقِرَاءةِ أَعْظَمِ سُورَةٍ فِي كِتَابِهِ سُورَةِ الفَاتِحَةِ (السبْعُ المَثَانِي)، فَتبْدَأُ بالبَسْمَلةِ بَعدَ دُعَاءِ الاسْتفْتَاحِ، ثُمَّ تَقْرَأُ: “الحَمْدُ للهِ ربِ العَالمينَ” فَاسْمَعْ مَاذا يَقولُ الرَحْمنُ الرَحيمُ لَكَ، عَنْ أَبِي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قالَ اللَّهُ تَعالَى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ العَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ}، قالَ اللَّهُ تَعالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قالَ اللَّهُ تَعالَى: أثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وإذا قالَ: {مالِكِ يَومِ الدِّينِ}، قالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وقالَ مَرَّةً فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي، فإذا قالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قالَ: هذا بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ: {اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ} قالَ: هذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَأَلَ» (رَواهُ مُسلمٌ).

وَأَحْبَبْتُ أَنْ أُذَكرَكَ أَن هَذَا الاحْتِفَاءَ يَتَكَررُّ مَعَكَ في سُورَةِ الفَاتِحَةِ فِي الفَرَائِضِ فَقَطْ ( 17 مَرْةً يَوْمياً)، فَمَا بَالكَ بِالسُنَنِ الرَوَاتِبِ قَبْلَ وَبعْدَ الصَلاةِ، وَصَلاة الضُحَى وَقيام اللّيلِ وَالتَطوّع وغيرها من السنن.

ثُمَّ يَحْتَفي بِكَ عِنْدَمَا تَقُولُ كَلِمَةَ (آمين)، عَنْ أَبي هُريرَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ أَنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أمَّنَ الإمَامُ، فأمِّنُوا، فإنَّه مَن وافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلَائِكَةِ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ» (رَواهُ البُخاريُ).

وَلَا زَالَ الاحْتِفَاءُ بِكَ مُسْتَمِرَّاً، كُلَّمَا رَكَعْت وَسَجدْت تَتَسَاقَطُ ذُنُوبَكَ، ارْعِ سَمْعَكَ مَعِي لِهَذَا الحَديثِ العَظيمِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بِن عُمَر رَضيَ اللهُ عنْهُمَا، عَنْ النَبي ﷺ قَالَ: «إنَّ العبدَ إذا قَامَ يُصلِّي أُتِي بُذُنوبِه كُلِّها فَوُضِعَتْ على رأسِه و عاتِقَيْهِ، فكُلَّما رَكعَ أو سَجدَ تَساقَطَتْ عَنْهُ» (صَحَّحَهُ الألْبَانيُ).

هَل اقْتَنَعْتَ -أَخِي القَارِئ- أَنَّ اللهَ مَا زَالَ يُحِبَّكَ وَيُريدكَ أَنْ تَقْتَرِبَ مِنْهُ، أَمْ أَنَّكَ لَا زِلْتَ فِي شَكٍ مِنْ أَمْرِكَ، أَمْ تُريدُ الاسْتِزَادَةَ؟!!.

«أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ وهو ساجِدٌ، فأكْثِرُوا الدُّعاءَ»

بَلَى.. أَخي لَا زَالَ يَحْتَفي بِكَ، فَكُلَّمَا سَجَدتُ اقْتَرَبْت مِنْهُ سُبَحَانَهُ، وَالشَاهِدُ فِي سُنةِ النَبِي ﷺ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ وهو ساجِدٌ، فأكْثِرُوا الدُّعاءَ» (رَواهُ مُسْلمٌ). يَقُولُ: فَأكْثِرُوا الدُعَاءَ، أَي: اطْلُبْ مِنِّي يَاعبْدِي وَأنَا الكَبيرُ القَويُ العَزيزُ الكَريمُ سَأُعْطيكَ وَأزيدكَ مَا لَمْ تَتَعجْلْ فِي الإجَابَةِ، كَمَا قَالَ ﷺ: «يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» (رَواهُ الُبُخاريُ).

وَلَمْ يَنتَهي الاحْتِفَاءُ عِنْدَ هَذَا الحَدِّ، بَلْ يَحْتَفي بِكَ أَكْثَرَ وَأكْثَرَ وَيُعْطيكَ هَديَّةً قَبْلَ أَنْ تَخرُجَ وَتُسَلِمَ مِنَ الصَلاةِ، يُعطيكَ وَقتاً لِتَدعوهُ وَتطْلُبَهُ، هَلْ سَمِعْتَ هَذَا الحَديثَ مِنْ قَبْل، الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بِن مَسْعود رَضيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ ﷺ: «… ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أعْجَبَهُ إلَيْهِ، فَيَدْعُو» (رَوَاهُ البُخَاريُ)، وَذلكَ بَعْدَ التَشَهُّدِ الأخيرِ وَقَبْلَ السَلامِ مِنَ الصَلاةِ يَدعو بِمَا يَشَاءُ.

وَهُنَاكَ احْتِفَاءٌ مُمَيّزٌ بَعْدَ السَلامِ، وَهيَ رِسَالَةٌ أَيْضَاً للْمُتَعَجِّلِ بَعْدَ الصَلاةِ قَبْلَ أَنْ يَأتي يَومَ التَغَابُنِ (يَومَ القَيامَةِ)، عَنْ أَبي هُريْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسولِ اللهِ ﷺ: «مَن سَبَّحَ اللَّهَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وحَمِدَ اللَّهَ ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وكَبَّرَ اللَّهَ ثَلاثًا وثَلاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ، وقالَ: تَمامَ المِئَةِ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، له المُلْكُ وله الحَمْدُ وهو علَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطاياهُ وإنْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ» (رَوَاهُ مُسْلمٌ).

تُغْفَرُ خَطَايَاكَ فِي ذِكْرٍ لَا يَأْخُذْ مِنْ وَقْتِكَ إلَّا (5 دقائقٍ فَقَطْ)، فَهَلْ سَتَبْخَلُ عَلَى نَفْسِكَ المُقصِّرَةِ المُخْطِئَةِ بِهَذِهِ الدَقَائِقِ!!

وَيحْتَفي بِكَ فِي ذِكرٍ آخَرٍ وَوَصيةٍ مِنْ حَبيبِهِ ﷺ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ – رَضيَ اللهُ عَنْهُ – أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ علَيهِ وَسلَّمَ أخذَ بيدِهِ، وَقَالَ: «يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّك، فقالَ: أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسنِ عبادتِكَ» (رَواهُ أبو دَاود).

وَيَحْتَفي بِكَ أَيْضَاً فِي ذِكْرٍ قُرآنيٍ يَسيرِ يَكونُ سَبباً فِي دُخولَكَ الجَنْةِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلي رَضيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلا أَنْ يَمُوتَ» (رَواهُ النِسائي وَصحَّحهُ الألبَانيُ).

وَاحْتِفاءٌ آخَرٌ، عَنْ عُقبةَ بنِ عَامِرٍ – رَضيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: “أمرَني رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ- أن أقرأَ بالمعوِّذاتِ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ” (رَواهُ أبو داود وَصحَّحه الألبَانيُ). وَالمَعُوذاتُ هِيَ: سُورَةُ الإخْلاصِ والفَلَقِ والنَاسِ.

وَيَحْتَفي بِكَ إذَا اسْبَغْتَ الوضوءَ وَأكْثَرْتَ الخُطَى إلى بَيْتِهِ وَانْتَظرْتَ الصَلاةَ بَعْدَ الصَلاةِ، قَالَ ﷺ: «أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟»، قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: «إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ» (رَواهُ مُسْلمٌ).

أَرَأَيْتَ أَخي المُصَلّي.. كَيْفَ يَحْتَفي بِكَ سُبَحَانَهُ وَكَيفَ يُريدُ أَنْ يَتوبَ عَليكَ، تَأكَّدْ -أخي الكَريم- بِأنَّ صَلاتَكَ وَعَمَلكَ لَا تزيدُ فِي مُلكِ اللهِ شيئاً، وَتقْصيرُكَ فِي صَلاتِكَ وَعَمَلِكَ لَا يُنْقصُ مِن مُلكهِ شيئاً، وَلَكِنَهُ عَمَلُكَ وَصَلاتُكَ وَصُنْدُوقُ أَعْمَالِكَ فَاجْمَعْ فِيهِ مَا شِئْتُ، عَنِ النبيِّ ﷺ، فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنَّهُ قالَ: «… يا عِبَادِي إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ…» (رَواهُ مُسْلمٌ).

فضل صلاة الجمعة

ثُمَّ ارْعِ سَمْعَكَ إلى هَذَا الاحْتِفَاءِ المُمَيزِ يَومَ الجُمْعَةِ، فَلَا يَخَفَى عَلَى -شَريف عِلمكَ- مَا فِيهِ مِنْ فَضَائِلَ وَمَزَايَا عَنْ غَيرِهِ مِنَ الأَيَّامِ، فَفيهِ الإكْثَارُ مِنَ الصَلاةِ عَلَى النَبي ﷺ فَي لَيلةِ الجُمْعَةِ وَيَومَ الجُمْعَةِ، وَفيهِ قِراءَةُ سُورَةِ الكَهْفِ نُورٌ مَا بَيْنَ الجُمْعَتينْ، وَفيهِ سَاعةٌ إذا وَافَقَتْ وَقْتَ اسْتِجابةٍ.. اسْتَجَابَ اللهُ لَكَ فِيهَا، وَفيهِ صَلاةُ الجُمْعَةِ وَالتَبْكيرِ لَها، كَمَا في الحَديثِ قَالَ ﷺ: «من غسَلَ يومَ الجمعةِ واغتسلَ ثمَّ بَكَّرَ وابتَكرَ ومشى ولم يرْكب ودنا منَ الإمامِ فاستمعَ ولم يلغُ، كانَ لَهُ بِكلِّ خطوةٍ عملُ سنةٍ أجرُ صيامِها وقيامِها» (رَواهُ أبو داود)، فَقَطْ صَلاةٌ وَاحِدَةٌ كُلُ جُمْعَةٍ تُساوي كُل خُطوةٍ إلى المَسْجدِ عَملَ سَنةٍ كَاملةٍ صِيامٌ وَقيامٌ..

يا الله.. مَا أعْظَمَكَ وَمَاأكْرَمَكَ.. مَا أعْظَمَ هَذا الفَضْل، وَمَا أعْظَمَهُ مِنْ إلهٍ كَريمٍ.. وَليسَ مَعْناهُ أنكَ تُصلّي الجُمْعةَ فَقَطْ ثُمَّ تَتَركُ الفَريضَةَ وَتَتَركُ صَلاةَ الجَمَاعةِ كَمَا يَفعلُ بَعْضُ المُسْلمينَ – هَدَاهُمُ اللهُ -، بَلْ تُصلّي كُل الصَلواتِ وَتَكون هي دَيدَنكَ فِي هَذه الحَياةِ حَتى تَلقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ..

بَلْ الاحْتِفاءُ طِوالَ الأسْبوعِ بِتَكْفيرِ الذّنُوبِ إلَّا الكَبَائرَ، وَالدليلُ مَا رَواهُ أبو هُريْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ النَبي ﷺ قَالَ: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ ما بيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ» (رَواهُ مُسْلمٌ).

أرِحْنا بها يا بلال

مَا أحْوجَ الأمة اليومَ للعودةِ إلى بيوتِ اللهِ والصلاةِ، فعنْدَما كَانَ يُنادي النبيُ ﷺ عَلى بِلالا رَضيَ اللهُ عَنهُ: «يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها» (رَواهُ أبو داود)، لَمْ يَأتي هَذَا النِدَاءُ مِنْ فَراغٍ، حَاشَاه ﷺ بَلْ كَانَتْ حَيَاتُهُ كُلُها مَعَ الصَلاةِ، بَلْ إنَّه دَعَا عَلَى اليَهودِ لمَّا أشْغَلوهُ عَن صَلاةِ العَصْرِ، عن عَلي بن أبي طَالِب رَضيَ اللهُ عَنَهُ قَالَ: كُنَّا مع النبيِّ ﷺ يَومَ الخَنْدَقِ، فَقَالَ: «مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وبُيُوتَهُمْ نَارًا، كما شَغَلُونَا عن الصَلَاةِ الوُسْطَى حتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ وهي صَلَاةُ العَصْرِ» (رَواهُ البُخاريُ)، وَكَانَ يُوصي حَتى عِنْدَ وَفَاتِهِ ﷺ، كَمَا فِي الحَديثِ: «كان آخر ُكلامِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الصلاةَ الصلاةَ! اتقوا اللهَ فيما ملكت أيمانُكم» (رَواهُ أبو داود، وَصَحَّحَهُ الألْبَاني).

وَاسْمَعْ مَاذَا قَالتْ أُمُنَا الطَاهِرَةُ عَائِشَةُ رَضيَ اللهُ عَنْها لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ النَبي ﷺ مَاذَا كَانَ يَصْنعَ فَي بَيْتِهِ، قَالَتْ: “كِانَ يَكونُ في مِهْنَةِ أهْلِهِ – تَعْنِي خِدْمَةَ أهْلِهِ – فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إلى الصَّلَاةِ” (رَواهُ البُخاريُ). إذَا حَضَرتْ الصَلاةُ يَخرجُ وَلَا يَجْلسُ حَتَى مَعَ أَهْلِهِ أَقْرَبُ النُاسِ إليه.

فَإنَّ الصَلاةَ إنْ صَلُحَتْ صَلَحَ سَائِرُ العمَلِ وَالعَكْسُ، كَمَا قَالَ حَبيبُنَا ﷺ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ؟ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ» (رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وصَحَّحَه الألبَانيُ)، فالله الله – أيُّهَا الأخ الكريم- ألمْ يَأنْ لَكَ أَنْ تَعودَ وَتَتوبَ وَتُحَافظ عَلَى الصَلاةِ، فَقَدْ سَمِعْت وقرأت هَذهِ الأحَاديثَ النَبويَّةَ العَظيمةَ، وَإنَّمَا هَذَا الذي ذَكَرْتُهُ غًيضٌ مِنْ فَيضٍ، فَالصَلاةُ وَفَضلُهَا تَحْتَاجُ إلى كُتُبٍ وَمَقَالاتٍ، فًلا نُوفيهَا حَقَّهَا في هَذهِ الأسْطُرِ القَلائِلِ، فَهي العَجيبةُ التي لَا يَتْرُكَها مُسلمٌ أو مُسلِمَةٌ سَواءاً كَانَ في سِلمٍ أو حَرْبٍ، أو كَانَ في صِحةٍ أو مَرضٍ، أو كَانَ في حضرٍ أو سَفَرٍ، أو كَانَ على الأرضِ أو في السماءِ، أو كَانَ في بَحرٍ أو بَرٍ، حَتى إذا كَسَفتْ الشَمْسُ نُصَلي، وَإذا خَسَفَ القَمرُ نُصَلي، وَإذا أَجْدَبَتْ الأرْضُ وأرَدْنَا الغَيثَ نُصَلي، فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلهَا الركنَ الثاني مِنْ أَرْكَانِ الإسْلامِ.

أخي المسلم.. عُد إلى ربك بقلبٍ منيبٍ تائب، وسيحتفي بك سبحانه رُغم تقصيرك في حقه، ولسان حالك يقول:

   كَثُرَتْ ذُنُوبِي، إِنَّمَا            أَرْجُوكَ رَبَّ العَالَمِينْ

اغْفِرْ ذُنُوبِي يَا إِلهِي              يَا مُجِيبَ السَّائِلِينْ

     مَا أَنْتَ إِلا رَحْمَةٌ             وَسِعَتْ ذُنُوبَ التَّائِبِينْ

فَاسْتَعِنْ باللهِ على الشيْطَانِ وَالهَوى وَالنفْسِ، وَقُمْ إلى صَلاتِكَ وَادعُ اللهَ أنْ يُحييكَ عَليهَا وَيُميتكَ وَأنتَ تُصَلي بِإذْنِهِ تَعَالى.. وَلا تَنْظرْ للمُقَصِّر في صَلاتِهِ وتُحَاوِل أَنْ تُقلِّدَهُ، فإنَّ كُلَّ وَاحدٍ مِنا سَيقفُ أمَامَ الجَبَّارِ بِمفردِهِ وَسَيُحاسبُهُ عَلَى أَعْمَالِهِ وَصَلاتِهِ، قَالَ جَلّ وَعَلا: {وَكُلُّهُمۡ ءَاتِيهِ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَرۡدًا} (سورة مريم).

اللهُمَّ اجْعَلنَا وَذُرياتِنَا مِن مُقيمِي الصَلاةِ، اللهُمَّ حَبِّبْ إلينَا الصَلاةَ وأَرِحْنَا بِها مِنْ هُمومِ الدُنيا، اللهُمَّ اغْفِرْ لآبائنا وَأمَّهَاتِنا وارحَمْهُم كَمَا رَبونَا صِغَاراً، واغْفِرْ وارْحمْ لِكلِ مَنْ عَلَّمَنَا الصَلاةَ، اللهُمَّ اجْعَلْ بَواطنَنَا خَيْراً مِنْ ظَواهرِنَا، اللهُمَّ اجْعَلْ أعْمَالَنَا وَأقْوَالَنَا خَالِصَةً لِوجهِكَ الكَريمِ، رَبَّنَا آتنَا في الدُنيا حَسنةً وفي الآخرةِ حَسنةً وَقِنَا عذابَ النَارِ، وَصَلِّى اللهُ على نَبينَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّم تَسْليمَاً مَزيدَاً..



 

جميع الآراء الواردة بهذا المقال تعبر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

Print Friendly, PDF & Email

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى