تقرير المخابرات الأمريكية عن مقتل خاشقجي: تمخض الجبل فولد فأرا

نكسة جديدة يتلقاها المسلمون الذين يعلقون آمالهم على أمريكا لتقتص من حكامهم (أي من حكام المسلمين) الظلمة المجرمين، وترد إليهم (أي الى المظلومين من المسلمين) الحقوق. فهل سيتعلم المسلمون الدرس؟ لا أظن ذلك، فقد لُدغوا مرارا وتكرارا من الغرب وعلى رأسه أمريكا، ومن الأنظمة الوظيفية المتحكمة في بلاد المسلمين، ثم لا يلبثوا يعودون لنفس الجحور حتى قبل التئام جروح اللدغات السابقة.
تقرير المخابرات الأمريكية عن مقتل خاشقجي: تمخض الجبل فولد فأرا
فقد جاء في الملخص التنفيذي لتقرير المخابرات الأمريكية الذي امتنع ترامب عن نشره، ونشرته مؤخرا إدارة بايدن: [تقييمنا يذهب إلى أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان صادق على عمليةٍ في إسطنبول/تركيا لاعتقال أو قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي. ونبني هذا التقييم على أساس المعطيات التالية:
- سيطرة ولي العهد على مفاصل صنع القرار في المملكة العربية السعودية
- المشاركة المباشرة لمستشار رئيسي وأعضاء فرقة الأمن الشخصي لمحمد بن سلمان في العملية
- دعم ولي العهد لاستخدام الإجراءات العنيفة لإسكات المعارضين في الخارج، بمن فيهم خاشقجي] (انتهى الاقتباس من تقرير المخابرات الأمريكية).
فالتقرير لم يأتي بأي جديد، ولم يقدم أدلة مادية (كمكالمات لابن سلمان، أو شهادات شهود عيان من المقربين من ابن سلمان، أو وثائق موقعة من ابن سلمان أمر فيها بجلب خاشقجي أو قتله، أو شهادات بعض منفذي الجريمة)، التقرير الاستخباراتي لم يتطرق حتى للتسجيلات الصوتية “المزعومة” التي وثقت استجواب رجالات ابن سلمان لخاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، وضَرْبه وشتمه، ولحظات قتل خاشقجي خنقا وتقطيع جثثه، خصوصا أن تقارير تركية وأمريكية أفادت أن رئيسة المخابرات الأمريكية “سي.آي.إي”، جينا هاسبل، استمعت لكل تلك التسجيلات، خلال زيارتها الخاصة بهذا الشأن لتركيا في 12 صفر 1440هـ (23 أكتوبر 2018م).
كل ما قدمه تقرير الاستخبارات الأمريكية مجرد استنتاج “منطقي”، استنتجه العالم كله منذ اليوم الأول من اختفاء خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول.
فمما كتبتُ مثلا شخصيا في مقال تحت عنوان “حين تصبح الحصانة الدبلوماسية أداةً لجرائم خطف وقتل”، نشرته بتاريخ 14 صفر 1440هـ (25 أكتوبر 2018م)، أسبوعين فقط بعد مقتل خاشقجي: [جريمة قتل جمال خاشقجي ربما ستدخل التاريخ كالعملية الأشد غباء وارتجالية عرفتها المخابرات في العالم. فالمخابرات السعودية عملت كل ما يمكن القيام به لكيلا يستطيع أحدٌ– مهما حاول – ربط خيوط العملية بجهة غير المخابرات السعودية، بل ولا يستطيع إسناد أمر القيام بالجريمة لجهة سعودية غير رأس النظام السعودي نفسه. فجريمة القتل تمت في مقر سعودي رسمي معلوم، وهي القنصلية، واستُعملت في العملية سيارات دبلوماسية رسمية. وخاشقجي لم يُجلب خفية الى القنصلية، بل دخلها نهارًا أمام أعين العالم كله وأمام عدسات آلات التصوير التي لا تخلو منها قنصلية أو سفارة في العالم، كما هو معلوم للكل. وعملية القتل تمت ضد رجل مشهور ترصده كل العيون، وتتتبع كل تحركاته واتصالاته. وأُرسل فريق لقتل خاشقجي معلوم وظيفة كل واحد منهم في مؤسسات الدولة السعودية، ودخلوا إلى تركيا بصفة رسمية بحصانات دبلوماسية. وكان من بين أعضاء فريق القتل أشخاص معلومٌ للهواة ارتباطهم المباشر برأس النظام السعودي، ولي العهد محمد بن سلمان، فمنهم من هو حارسه الشخصي. فقضية خاشقجي من الوضوح والسهولة مما كان الوصول للآمرين فيها بالقتل وليس المنفذين فحسب].
لن تُنزل أمريكا عقوبات على محمد بن سلمان
ومما زاد الطين بلة، أن الإدارة الأمريكية قررت أنها لن تنزل أية عقوبات على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، رغم تقرير المخابرات الأمريكية الذي فُهم منه أنه يحمل مباشرة محمد بن سلمان مسؤولية إصدار قرار “العملية” ضد خاشقجي، واكتفت الإدارة الأمريكية بعقوبات تافهة على بعض من نفذ العملية وأدارها نيابة عن ابن سلمان.
وقد تلعثم البيت البيض الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية على السواء، في محاولتهم تبرير عدم معاقبة محمد بن سلمان، حيث برروا ذلك بأن الولايات المتحدة الأمريكية، سواء تحت إدارة الجمهوريين أو الديمقراطيين، لم تتخذ قط عقوبات مباشرة ضد قيادات دول، وأن ذلك ليس من سياساتها.
ولما فند أحد الصحفيين الأمريكيين تبريرات المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، بإعطاء أمثلة كثيرة على عقوبات أنزلتها أمريكا على رؤساء دول، غيَّر المتحدث لهجته، وبرر عدم اللجوء لعقوبات ضد ابن سلمان بسبب دور السعودية المهم الذي تقوم به في المنطقة، والعلاقات الخاصة لأمريكا مع السعودية، وأن أمريكا لا يمكنها نشر “الديمقراطية” بالقوة كما حاولت من قبل في العراق، الخ.
تقرير المخابرات الأمريكية مجرد ورقة توت ينسل بها بايدن من وعوده الانتخابية
استغل بايدن قضية مقتل خاشقجي وتغطية ترامب على ابن سلمان في الانتخابات الرئاسية ليحصل على أصوات ضد ترامب.
فقد صرح بايدن في حملته الانتخابية أنه لن يكون تم “مزيد من شيكات على بياض لـ” الديكتاتور المفضل لترامب“، وقال بأنه “سيعيد تقييم علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع المملكة العربية السعودية”. ووصف بايدن السعودية بأنها منبوذة ووعد بمعاملتها على هذا الأساس. كما أيد النتائج التي توصلت إليها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بأن الأمر بقتل جمال خاشقجي صدر فعلا من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
والآن، بعدما فاز بالانتخابات، أغلق بايدن ملف ابن سلمان ومنحه حصانةً تماما كما فعل ترامب من قبل، الفرق فقط أن بايدن قدم بعض أكباش فداء نيابة عن محمد بن سلمان، بمنعهم من دخول الولايات المتحدة الأمريكية، وكأن الطغاة سيتوقفون عن تعقب المعارضين وخطفهم وتعذيبهم أو قتلهم، لمجرد أن بعض منفذي أوامر الطغاة لن يستطيعوا بعد فعلتهم زيارة أمريكا، وكأن جلادي الطغاة يُسمح لهم أصلا بمغادرة دولة طواغيتهم أو يرغبون في ذلك!
ما الذي سيدفع أمريكا لتتخلى عن محمد بن سلمان وتعمل على إزالته من الحكم في السعودية؟
“هل يُستبعد استقبال عواصم غربية لمحمد بن سلمان بسجاد أحمر؟”، تحت هذا العنوان نشرت مقالا بتاريخ 15 ربيع الأول 1440هـ (24 نوفمبر 2018م)، حيث قلت فيه: [من المفارقات العجيبة في قضية خاشقجي، أن يُقتل مسلم على يد مسلمين في بلد مسلم، فيتجه المسلمون المناصرون للضحية والمتَّهَمون بجريمة القتل على السواء إلى الغرب وخصوصًا أمريكا، ليحكموا بينهم في القضية، الطرف الأول يزود دول الغرب بأدلة تدين السعودية، والطرف الثاني يحاول أن يبرهن للغرب أن رأس النظام السعودي بريء من التهمة!
إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن دويلات المسلمين (قاطبة) مجرد “ملحقات إدارية وأمنية” لأمريكا والغرب، لا تتوافر حتى على السيادة والعزة والقوة والاستقلالية التي تتوافر عليها ولاية من الولايات المتحدة الأمريكية الخمسين، ويدل على أن الغرب هو الذي ينصب حكام المسلمين ويقلعهم متى شاء، أما الشعوب المسلمة فلا محل لها من الإعراب، لا سلطان لها البتة، هي في حكم العَدَم. حكام المسلمين يهمهم الرأي العام في الغرب ويخشونه، لكن لا تهمهم الشعوب المسلمة ولا يعيرون أي اهتمام لمشاعرها وإرادتها وآراءها، فلو كان للشعوب المسلمة سلطان، لكان الشعب في السعودية من حاسب محمد بن سلمان حسابًا عسيرًا على جريمة قتل خاشقجي، وأزاحه من الحكم وقدمه هو وعصابته المنفذة للجريمة للمحاكمة في السعودية.
لو كان للشعوب المسلمة سلطان لَمَا تجرأ أصلا محمد بن سلمان على قتل خاشقجي، ولَمَا تجرأ على قتل المسلمين في اليمن، ولا تجرأ هو وغيره من حكام المسلمين على اعتقال المسلمين لمجرد إدلائهم بآرائهم السياسية وانتقادهم للحكام، ولما تجرأوا على تعذيب المسلمين وإذلالهم وتجويعهم وقتلهم ونهب خيراتهم والتواطؤ مع دول الغرب ضدهم، فما دامت الشعوب المسلمة مسلوبة الإرادة والسلطان والقوة، فسيبقى الحكام الرويبضة ومن ورائهم الغرب يعبثون بها وبخيراتها وبلدانها.
وهكذا، أمام حالة الغثائية والعجز التي تعيشها الشعوب، يتطلع المسلمون وحكوماتهم (على رأسهم الحكومة التركية) للغرب وأمريكا على الخصوص ليتخذوا هم (وليس المسلمون) عقوبات صارمة ضد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تؤدي لإنهاء طموحاته في أن يصبح ملكًا في السعودية، وذلك بسبب إصداره أمر قتل الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بأنقرة.
فما الذي سيدفع الغرب لمعاقبة محمد بن سلمان على جريمةٍ، الغرب نفسه ارتكب ويرتكب جرائم أبشع منها ضد ملايين المسلمين في البلدان الإسلامية؟ وما الذي يدفع أمريكا لإزاحة محمد بن سلمان وهي التي أتت به لسدة الحكم، وضمن لها هو أن يقضي بالحديد والنار على ما تبقى من الإسلام في الحياة الاجتماعية في السعودية، ويمنحهم مزيدًا من المليارات جِزْيةً، ويرغم الشعب المسلم على التطبيع مع “إسرائيل” بعدما طبَّعت معها منذ عقود كل الأنظمة المتحكمة في البلدان الإسلامية؟ لماذا يمتنع الغرب عن التعامل مع محمد بن سلمان وهو الذي يقبل التعامل مع حكام عرب أشد بطشًا وإجرامًا من محمد بن سلمان.
أمام كل هذه المعطيات وأمام ازدواجية معايير دول الغرب التي تتغير حسب المصالح المادية والسياسية، وأمام تاريخ وحاضر دول الغرب الأسود تجاه المسلمين، حيث ارتكبت وما زالت ترتكب هي نفسها جرائم بشعة في عدد من البلدان الإسلامية، قُتل على إثرها أعداد لا تحصى من المسلمين الأبرياء، أطفال وشباب ونساء وشيوخ، وسُوِّيت مدنهم وقراهم بالأرض، وأمام الخدمات والأموال التي يقدمها آل سعود ومحمد بن سلمان للغرب ولأمريكا على الخصوص، وأمام إصرار محمد بن سلمان على منافسة الحكام المسلمين في خدمة “إسرائيل”، وتحمسه الكبير للعب دور ريادي في إتمام تصفية القضية الفلسطينية لصالح “إسرائيل”، .. أقول أمام هذا كله، ما الذي سيدفع الغرب (وخصوصًا أمريكا) ليتخلى عن محمد بن سلمان ويعمل على إزالته من الحكم في السعودية؟
وإذا كان، على سبيل المثال لا الحصر، سقط مئات آلاف القتلى من المسلمين جراء غزو أمريكا للعراق سنة 1424هـ (2003م)، غزوٌ بُرر على أساس قصص واتهامات مكذوبة، ومع ذلك لم يعاقب أي من المسؤولين الأساسين، بوش الابن الرئيس الأسبق لأمريكا وتوني بلير رئيس الوزراء السابق لبريطانيا، بل وتم إعادة انتخابهم كرؤساء على دولهم، واستقبلتهم كل دول العالم ورحبت بهم، فما المانع من ترميم صورة محمد بن سلمان وقبوله فيما يسمى “المجتمع الدولي”، وجريمة خاشقجي لا تعادل عُشر أعشار جرائم بوش وبلير؟
إلى جانب كل ذلك، فبتجاوز الغرب عن محمد بن سلمان جريمة قتل خاشقجي، سيجعل على رأس سدة الحكم في السعودية حاكمًا مكسور الجناحين، مدينًا للغرب ولأمريكا على الخصوص ببقائه في الحكم، فيكون سخائه المادي تجاه الغرب أكبر، وخدماته له ولـ”إسرائيل” أعظم، وحربه على الإسلام والمسلمين أشد] (انتهى الاقتباس).
أمريكا لن تزيح ابن سلمان أو مُلك آل سعود إلا إذا كان ذلك من مصلحتها هي، وليس خدمة للمسلمين المضطهدين من قِبَل آل سعود
قد تزيح أمريكا ابن سلمان بل وحتى مُلك آل سعود في المستقبل، إذا كان ذلك من مصلحتها هي، أو تقزم البلد الذي يحكمونه وتجزئه، تماما كما فعلت مع عملاء كثر من قبل كصدام حسين، وحسني مبارك، وزين العابدين بن علي، وعمر البشير، والقذافي، والشاه في إيران، الخ. إلا أن البديل لن يكون ما يريده المسلمون الذين يتطلعون لأمريكا لتخلصهم من الحكام الطغاة في البلدان الإسلامية، بل سيكون عملاء جدد أشد مسخا وقذارة وصَغارا، وأشد عداوة للإسلام من الحكام الحاليين. فكل من يطالب أمريكا من شخصيات وجمعيات وأحزاب مسلمة بمساندتهم لقلع الأنظمة الطاغية في العالم الإسلامي، هم مجرد بيادق تستعملهم أمريكا لتضفي بهم شرعية على سياساتها ومخططاتها في العالم الإسلامي، وإن قبلت أمريكا بقلة منهم ليتولوا الحكم بدلا من طاغية أزاحته، فلن يكونوا إلا عبيدا وعملاء جدد، وعليهم دفع ضريبة ذل وعمالة وعبودية أكبر مما يدفعها الطغاة الحاليون.
فعلى المسلمين أن يفرقوا بين الحماية والرعاية التي يمكن أن تمنحهم إياها أمريكا أو بعض دول الغرب عموما، تمنحها لهم ولأسرهم كأفراد حين يلجؤون للعيش عندها، فهذه من أعراف البشرية منذ القدم ولازال الغرب يلتزم بها الى حد كبير، وبين الحلم بأن أمريكا ستساعدهم لإزاحة الحكام الطغاة، ومنح الشعوب المسلمة الحرية ليختاروا بمحض إرادتهم نظام الحكم والحكام الذين يريدون، فهذا الحلم لن يتحقق قط، لأن من سياسات الغرب العقائدية الحيوية، ألا تكون للشعوب المسلمين حريةُ قرار، وألا يحكمهم إلا حكام موالون للغرب، خادمين لمصالحه، ومعادون للإسلام!