علوم تجريبية وطب

التحاق البلدان الإسلامية بالركب في العلوم التجريبية يتحقق بالمؤسسات وليس بالأفراد

لا يخفى على أحد التخلُّف الكبير للبلدان الإسلامية عن ركب التطور المادي للبشرية، بحيث لا تكاد تصنع (أي البلدان الإسلامية) أي شيء، لازال اقتصادها يعتمد بشكل كبير على الفلاحة والسياحة وتصدير الموارد الطبيعية الخام كالنفط والغاز الطبيعي والفوسفات وغيرها. أما مجالات التصنيع فلازالت بدائية، تقتصر على بعض الصناعات الخفيفة وبعض خدمات “التجميع” أو “التركيب” (أي تجميع قطع غيار مستوردة لتكوين منتوج معين كالسيارات والدراجات، الخ)، وحتى هذه الصناعات الخفيفة و”التجميع” تعتمد على آلات تصنيع وقطع غيار مستوردة من دول الغرب أو روسيا أو الصين.

بسبب هذا التخلف المادي في البلدان الإسلامية، وثقافة العجز والتعظيم المفرط لإنجازات الغرب التي زرعتها الأنظمة المتحكمة في البلدان الإسلامية، أصبح غالبية المسلمين يعانون من عقدة النقص تجاه الغرب.

من بين مظاهر عُقَدِ النقص تعمد المسلمين استعمال كلمات ومصطلحات غربية (غالبا الفرنسية أو الإنجليزية) لظنهم أن ذلك يرفع من شأنهم ومقامهم ويميزهم عن بقية المسلمين.

كما أن من مظاهر عقد النقص، تطاير المسلمين أخبارا عن مساهمة باحثين مسلمين هنا أو هناك أو باحثين من أصول مسلمة أو يحملون اسمًا عربيا، في بحث أو إنجاز في العلوم التجريبية، فيتباهون بهم ويستعملونهم حجة على أن الإسلام دين علم، وأن المسلمين قادرين على التفكير والبحث والاجتهاد مثل الأوروبيين والأمريكيين.

وقمة عقدة النقص ظهرت في تباهي المسلمين وفرحهم بوفاة أطباء مسلمين أو من أصول مسلمة أو يحملون اسماءً عربية، لما كانوا يؤدون وظيفتهم كأطباء خلال وباء فيروس التاج، فيتطايرون أخبار وفاتهم كقرابين واجبة الدفع للغرب، ليرضى عنهم، وليثبتوا بها وفائهم له وشكرهم إليه، وأنهم مساهمون في إنجازات الغرب.

اقرأ: «الأطباء المسلمون على خط مواجهة الوباء في أوروبا»

نجاح مسلم في العلوم التجريبية ليس شيئا مميزا ولا خارقا ولا استثنائيا

السؤال الذي يجب أن يطرحه كل عاقل: ما هو الشيء المُمَيز والاستثنائي أو الخارق، في كون مسلم أو مسلمة تفوق/تفوقت في الدراسة والبحث العلمي؟ أليس المسلم بشرا له دماغ وطموح مثله مثل الإنسان الأوربي؟

يمكن تفهم ضجة على قرد مثلا، أصبح يتكلم مثل الانسان أو يقوم ببعض الأعمال مثل الإنسان، لأن القرد حيوان لا يمكن تصور قيامه بأعمال معقدة مثل الإنسان. لكن حين ينجز إنسانٌ شيئا – أيًّا كانت ملته ودينه وعقيدته ولونه وأصله –، ينجز مثله غيره من الناس، فهذا ليس بالأمر المعجر ولا الاستثنائي، بل شيء جد طبيعي، ومن ثم تطاير أخبار عن مساهمة مسلم أو مسلمة في إنجاز علمي، لا يعبر إلا عن عقدة النقص الدفينة في نفوس المسلمين.

فكل شعوب الدنيا، أيًّا كانت ملتها ودينها وعقيدتها ولونها وعرقها وأصلها، إذا مُنحت إمكانية التَّعَلُّم، خرج منها ما يكفي من الأفراد المبدعين في شتى المجالات العلمية التي أُعطِيَت لهم فرصة تعلمها بأحدث الوسائل والمعلومات. فكل مجموعة بشرية (شعب) إلا وتتكون من أفراد تختلف في طاقاتها وقدراتها، فتجد فيها (أي كل شعب من شعوب الدنيا) أفرادا لهم القدرة على الإبداع في الرياضيات، وآخرين في الطب، وأفراد لهم القدرة على الإبداع في الفيزياء أو الكيمياء أو التجارة أو الصناعة، أو مختلف الحرف اليدوية، الخ. فكل شعب من الطبيعي أن يخرج منه مبدعون ومبتكرون في كل مجال مُنحوا فرصة تعلمه، ومن ثم حين يُمنح مسلمون إمكانية دراسة علوم تجريبية، سواء في بلدهم المسلم أو في دول الغرب، فسيخرج منهم أفراد ناجحون فيها. وهذا لا ينحصر على المسلمين، فدول الغرب تجد فيها أفرادا من كل شعوب العالم (من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، الخ) مندمجون في علوم الأبحاث التجريبية وناجحون فيها مثلهم مثل زملائهم الغربيين، فالمسلمون ليسوا استثناء، ولا يجوز أن يكونوا استثناء، لأنهم بشر مثل غيرهم، اللهم إلا إذا كنا ننظر للمسلمين على أنهم درجة أو درجات أقل من البشر، ناقصي عقل وفهم!  

العبرة بالمؤسسات وليس بالأفراد

فالعبرة إذًا ليست بالأفراد، وإنما بالمؤسسات، بالدول التي توفر مؤسسات الأبحاث العلمية في كل المجالات وعلى أعلى مستوى واستنادا لأحدث المعلومات، وتُسَهِّل وتُمَوِّل (أي الدول) ترجمة نتائج الأبحاث العلمية إلى منتوجات وخدمات ومصانع ينتفع منها الناس وتوفر فرص عمل جديدة، ويتم تسويق المنتوجات والخدمات إلى العالم! فالولايات المتحدة الأمريكية خصصت مثلا فقط السنة الماضية 18 مليار دولار ضمن ما سُمي «عملية السرعة القصوى» لتمويل أبحاث لتطوير لقاحات وأدوية ضد فيروس التاج، وقد فلحت في المهمة!  

فالباحثون المسلمون الذين يتطاير الناس أخبار مساهماتهم في العلوم التجريبية، مهما كانت قدراتهم العلمية ومهاراتهم وذكائهم وتفوقهم ومهما ابتكروا من أشياء، حالهم مثل حال كل باحث في العالم، – أيًّا كانت ملتهم ودينهم وعقيدتهم ولونهم وأصلهم –، مجرد موظفين، مجرد أُجراء لدى المؤسسة أو الشركة التي يعملون فيها حتى لو كانوا هم مؤسسي الشركة (لأن الشركة تخضع لقوانين وسلطة الدولة التي تتواجد فيها)، فرحين (أي الباحثون) بمكان العمل الذي حصلوا عليه وبالأجرة التي يتقاضوها. فالشعوب المسلمة لا منفعة لها من إنجازات الباحثين المسلمين، المستفيد نسبيا هو الباحث فحسب، يستفيد – كموظف – ماديا واجتماعيا. أما المستفيد الأكبر فهي الشركات والمؤسسات ومن ثم الدول التي ترعاها وتمكنها من البنية التحتية والتمويل.

فالعبرة إذًا بالدول ومؤسساتها، وليس بالأفراد، ولذلك تجد مؤسسات الأبحاث التجريبية في دول الغرب توظف باحثين من كل أجناس العالم ودياناته، فهم مجرد موظفين وأُجراء، وتستطيع الدولة والمؤسسات الاستغناء عن كل باحث في أي وقت واستبداله، مهما حقق من إنجازات ومهما كان بارعا في مجاله. العبرة في التقدم المادي والتفوق في الأبحاث العلمية بالدول ومؤسساتها، وليس بالموظفين. العبرة بأصحاب السيادة والقرار، بأصحاب التمويل، وهي الدول.

Photo by Satheesh Sankaran on Unsplash

التحاق المسلمين بالركب في العلوم التجريبية لن يتحقق إلا بقرار سياسي للدولة

ومن ثم التحاق المسلمين بالركب في العلوم التجريبية وما يترتب عنها من تقدم مادي في مجالات التصنيع والطب والأدوية وبرمجيات الحاسوب الخ، يكون بإرادة وقرار سياسي للدولة، وليس بشطارة “الباحثين المسلمين” كأفراد. فالدولة هي التي لها الإمكانيات المالية والسيادية لاتخاذ قرار بإنشاء معاهد أبحاث علمية وتمويلها، وتمكين الطلبة والباحثين من الأموال والأجهزة والآلات التي تمكنهم من الإبداع والإنتاج، وهي التي تمكن أصحاب الابتكارات من البنية التحتية والأموال لإنشاء مصانع وشركات. والدولة حين توفر هذه الإمكانيات، توظف ساعتها أصحاب الكفاءات العلمية من كل أنحاء العالم، أيًّا كانت ملتهم ودياناتهم وعقيدتهم ولونهم وأصلهم، فالدولة الحكيمة في سياساتها لا تحصر إمكانية جلب الطاقات البشرية والاستفادة منها في مُوَاطِنِيها أو فيمن يعتنقون ديانتها، بل تجلب الطاقات والكفاءات البشرية من كل أنحاء العالم، كما يفعل الغرب اليوم وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية.

فالذي يحقق التقدم المادي لدولة هم أصحاب السلطان وليس الباحثون، تماما كما أن إقامة الإسلام في الدولة لا يتحقق بعلماء الدين مهما توافر فيهم من علم وتقوى، ولكن بقرار سياسي سيادي من الحكام. فالتغيير أيًّا كان نوعه يحققه أصحاب السلطة بقرار سياسي، وليس أصحاب العلم، وإن كان أصحاب السلطة يوظفون أصحاب العلم والكفاءات لتحقيق التغيير والتقدم المنشود. فالمسلمون يحتاجون لدولة ذات إرادة وسيادة تريد فعلا تحقيق تقدم مادي، أما الأفراد أصحاب الكفاءات العلمية فتجلبهم الدولة من كل أنحاء العالم كموظفين وأُجراء، يعملون تحت شروطها وقوانينها.

فالسبب في تخلف المسلمين، ليس لأنهم ناقصي عقل وفهم، ولكن لأن دولهم تفتقد جملة وتفصيلا للإرادة والسيادة، لأن حكامهم تافهين، همهم الوحيد هو البقاء في كراسي الحكم، ويؤمنون بأن بقائهم في الحكم مرتبط برضى الغرب عنهم، وببقاء بلدانهم وشعوبهم رهينة للغرب، وتابعة له، ومن ثم لا يجوز للشعوب المسلمة التمكن من قوة علمية ومادية تنافس الغرب وصناعاته واقتصاده. لذلك يركز حكام المسلمين التافهين على سياسات تافهة تتمثل في تحقيق إنجازات في الغناء والرياضة والسياحة. فلو اتخذ حكام المسلمين قرارات سياسية سيادية للالتحاق بركب البشرية في العلوم التجريبية والصناعات الثقيلة، لتقدمت بلدان المسلمين في هذه المجالات في بضع سنين.

فالتقدم المادي ليس بتلك الصعوبة التي يصورها المنهزمون نفسيا، وإنما مسألة إرادة وقرار سياسي.

اقرأ أيضا: «بين التقليد والمنافسة، بين العبيد والأحرار»



 

جميع الآراء الواردة بهذا المقال تعبر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

Print Friendly, PDF & Email
اظهر المزيد

د. هشام البواب

الدكتور هشام البواب، ناقد ومحلل سياسي واجتماعي مستقل . مقالاته تشمل موضوعات سياسية واجتماعية وفقهية وعلوم تجريبية :::::: بعض كتابات الدكتور هشام البواب في الرابط التالي: https://atanwir.com/منشورات-الدكتور-هشام-البواب ::::::: hicbou1@mailfence.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى