عودة طالبان للحكم في أفغانستان: انتصار حقيقي أم وهمي، كامل أم ناقص؟

مقدمة
هل يمكن أن يذكرنا أحدٌ بمفاوضات أجراها المسلمون خلال المائتي سنة الماضية حققوا عن طريقها نصرا؟ أليست دويلات سايكس بيكو الوطنية الهزيلة الوظيفية للغرب في العالم الإسلامي نتاج مفاوضات مع قوى الاستعمار؟
ألم يثَبِّت المستعمر الغربي هيمنته على البلدان الإسلامية ويبقيها تحت نفوذه الى يومنا هذا، رغم انسحاب جيوشه منها، لأن أجداد المسلمين الذين خاضوا الحروب ضد المستعمر لم يكن لديهم وعي سياسي شرعي ولم يكملوا معركة التحرير المسلح، وسارعوا للجلوس على موائد المفاوضات؟
ألم يتسلم المميعة والخونة والمرتزقة والعملاء والسفهاء والطواغيت، ممن يُحسبون على المسلمين، الحكم في البلدان الإسلامية عن طريق المفاوضات مع المستعمر الغربي ودعمه لهم؟
ألم تفضي المفاوضات المتعلقة بالقضية الفلسطينية في أوسلو ومدريد وغيرها من المدن، الى الاعتراف رسميا بإسرائيل والتمكين لها في المنطقة وإطباق الحصار على البقية المستضعفة من المسلمين في غزة والضفة الغربية، وتحول “المقاومة الفلسطينية” لحراس إسرائيل؟
ألم تنتهي مفاوضات حرب البوسنة بحرمان المسلمين من دولة مستقلة خاصة بهم، في حين حصل أعدائهم من الصرب والكروات على دويلات خاصة بكل منهما بالإضافة الى مشاركتهم المسلمين الحكم في البوسنة تحت نظام حكم علماني؟
ألم تنتهي مفاوضات إسطنبول وجنيف وآستانا وسوتشي بإيقاف ثوار سوريا للقتال واستسلامهم للأعداء وتسليم كل الأراضي التي حرروها الى نظام آل الأسد وإيران وروسيا، تحت “الضمانة” التركية؟
ألم تكن المفاوضات التي دخلها الإخوان المسلمون وباقي تيارات انتفاضة ربيع الأول 1432هـ (فبراير 2011م) مع عسكر مصر السبب في إجهاض الانتفاضة مبكرا وعدم تحولها لثورة، ومكَّنَت الحكام الفعليين لمصر – الجيش والسفارة الأمريكية – من الحفاظ على هيمنتهم على البلاد؟ …
اللائحة طويلة للكوارث التي نتجت عن مفاوضاتٍ دخلها المسلمون، تحتاج لمجلد كي يحصيها ويناقش تفاصيلها ومآلاتها!
فبعد كل الإذلال والخيبات والهزائم التي حلت بالمسلمين وبعد ولادة الدويلات الوطنية المسخ إبان كل مفاوضات مع قوى الغرب – حتى لو حملت بعض تلك الدويلات الوظيفية شعار الإسلام وأقامت بعض الحدود (كالسعودية مثلا) –، .. بعد كل هذا أصبحت عبارة “مفاوضات” فأل شئم، كابوسا يجب أن يقض مضاجع كل من لديه ذرة عقل من المسلمين ولا تحركه المشاعر السطحية الآنية. فما إن تسمع بأن مسلمين دخلوا “مفاوضات” إلا ويجب سوء الظن بها وبالمشاركين فيها من المسلمين حتى يثبت العكس بالأدلة الملموسة، … ما إن تسمع بأن مسلمين دخلوا “مفاوضات” إلا وكن مؤكدا أن مكائد تحاك بالمسلمين وكوارث وهزائم ستحل بهم، وأعظمها ولادة نظام حكم وطني وظيفي جديد، خاضع للنظام الدولي (ما يسمى النظام الدولي هو نظام أقلية فرضته بالقوة على الغالبية في العالم)، يدور (أي نظام الحكم الوطني الوظيفي) ضمن الفلك الذي يُسمح له به، ويستعمله (أي الغرب) وخصوصا الدولة الأولى في العالم – الولايات المتحدة الأمريكية – في مخططات الصراعات الجيوسياسية بين العمالقة.
اقرأ أيضا: «طالبان: قد يكون ترامب سخيفا بالنسبة للعالم، لكنه عاقل وحكيم بالنسبة لطالبان»
أسئلة تحتاج لأجوبة
فإذا كانت كل المفاوضات التي دخلها المسلمون على مدار أكثر من مائتي سنة، لم تكن إلا لتوثيق هيمنة الغرب وإقامة أنظمة وظيفية في العالم الإسلامي وإقرار شرعية النظام الدولي، والإقرار بهيمنة الغرب على البلدان الإسلامية والخضوع لإملاءاته السياسية والاقتصادية والأمنية، والإمعان في تفريق المسلمين الى دويلات وطنية، … إذا كان الأمر كذلك فهل مفاوضات طالبان مع أمريكا وما ترتب عنها يشكل استثناءً؟ هل يُستبشر منها خيرًا؟
هل انسحاب أمريكا العسكري من أفغانستان كان قرارا أمريكيا، أم أرغمتها طالبان على ذلك؟ هل تَمَكُّن طالبان مؤخرا من غالبية الأراضي في أفغانستان كان نتيجة نصرٍ عسكري قاهر، أم نتيجة تفاهمات علنية وسرية بين طالبان وأمريكا مكَّنت على إثرها الولاياتُ المتحدة الأمريكيةُ طالبانَ من السيطرة على معظم الأراضي الأفغانية في وقت قياسي، بسحب دعمها لحكومة كابول وجيشها؟
هل أمريكا في حاجة لنظام طالبان في أفغانستان لتوظيفه ضمن صراعاتها ضد الصين على الخصوص وربما ضد روسيا أيضا؟
ثم أولا وأخيرا، ما هي معايير الانتصار والهزيمة؟ هل مثلا مجرد انسحاب أمريكا من أفغانستان يُعتبر انتصارا لطالبان، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى؟
سأحاول في هذا المقال الإجابة على غالب هذه الأسئلة.
معايير النصر
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التي أفرزت انتصارا قطعيا حاسما لدول الحلفاء برئاسة أمريكا ضد دول المحور (ألمانيا، إيطاليا، اليابان)، حيث وقَّعَت فِعْلِيًّا دول المحور على عقود الاستسلام التام وسلمت أسلحتها فعلا للمنتصرين ولم يبقى أي جيب للمقاومة ضد المنتصرين، وقُدِّمَت قيادات دول المحور المنهزمة للمحاكمات، … أقول، منذ تلك الحرب تغيرت الى حد كبير معايير النصر، ولم تعرف غالبية الحروب التي تَلتْ الحرب العالمية الثانية نصرا قطعيا حاسما. أصبح النصر التام الحاسم النهائي صعب المنال في الغالبية الساحقة للحروب، حتى لو كانت حروبا لدولة أو دول حققت تفوقا خارقا في الصناعة والتسليح والتحكم في الفضاء، ضد دولة أو دول شبه بدائية في معداتها وأسلحتها. فقد أصبح النصر في كثير من الحالات نسبيا، أصبح النصر والهزيمة وجهة نظر، مسألة تحليل ورأي.
ربما ترجع نسبية النصر بالأساس الى أن أهداف غالبية تلك الحروب نسبية أيضا، غير كاملة الملامح والأهداف. فخذ على سبيل المثال لا الحصر الحروب التي شنتها إسرائيل على لبنان وغزة منذ 1427هـ (2006م)، كل طرف ادعى أنه خرج منتصرا من الحرب، وكل طرف علل ادعائه بإحصائيات وأرقام تتعلق بمدى الخسارة المادية التي ألحقها بالعدو، أو عللها باعتبارات سياسية ومعنوية، أو اعتبر مجرد عدم قدرة العدو على تحقيق كل أهدافه انتصارا له!
فإن أردنا تقييم الخسارة والنصر في الحرب العشرينية في أفغانستان، يجب علينا أخذ عدة أمور بعين الاعتبار:
ما هي الأهداف التي دخلت من أجلها الولايات المتحدة الأمريكية الحرب في أفغانستان وهل حققتها؟
أهداف أمنية وانتقامية
أولا، كما أكد جو بايدن، الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية، في شهر شعبان 1442هـ (أبريل الماضي 2021م)، فإن أمريكا حققت أهدافها الأساسية التي ذهبت من أجلها الى أفغانستان: [الحصول على الإرهابيين الذين هاجموها في 11 سبتمبر و”تحقيق العدالة” ضد بن لادن، وتقليل التهديد الإرهابي بمنع أفغانستان من أن تصبح قاعدة يمكن من خلالها مواصلة الهجمات ضد الولايات المتحدة] (انتهى الاقتباس).
نعم، نتفق مع بايدن في تقريره هذا، إذ حققت أمريكا فعلا كل ذلك في أفغانستان، واستطاعت ربط طالبان كعنصر يضمن أمن أمريكا، ليس فقط يمنع انطلاق هجمات على أمريكا من الأراضي الأفغانية، بل وربما – حسب اتفاق الدوحة – يمكن أن تتحول أفغانستان لمقر مخابرات إقليمي يتعاون مع المخابرات الأمريكية ويزودها بمعلومات عن كل شاذة وفادة في المنطقة وليس أفغانستان فحسب، ومتابعة كل من تحدد أمريكا أنه عدو لها.
ثانيا، لا يجوز الإغفال عن دافع مهم، وهو الانتقام من المسلمين وإشباع الغطرسة الأمريكية، فأمريكا أوغلت في دماء المسلمين في أفغانستان بطريقة بشعة وحشية لمجرد الانتقام في غالب الأحوال، إذ استهدفت مئات الآلاف من المسلمين لم يؤذوا أمريكا قط، فقد تعمدت أمريكا قتل عشرات الآلاف من المدنيين، استهدفت المدارس والمستشفيات والمساجد وحفلات الزفاف الخ، … كل ذلك لإشفاء الغليل ضد المسلمين وإجبارهم على الخضوع لإملاءات أمريكا.
ما حقيقة إقامة نظام ديمقراطي في أفغانستان؟
أما الذي لم تحققه أمريكا في أفغانستان خلال حربها العشرينية، فهو تحويل أفغانستان الى دولة ديمقراطية حديثة مستقرة. لكن السؤال الذي يجب أن يطرحه كل محلل جاد: هل فعلا غاية أمريكا والغرب عموما تحويل مستعمراتها في العالم الإسلامي الى دويلات ديمقراطية مستقرة مستقلة؟ أين حقق الغرب ذلك قط في كل بلدان العالم الإسلامي التي اجتاحها خلال المائتي عام الماضية ولغاية حاضرنا؟ وهل الغرب يريد فعلا إنشاء دويلات ديمقراطية مستقلة في العالم الإسلامي، لتصبح خارجة عن طوعه، خادمة لشعوبها وليس لمصالح الغرب؟ فواقع الحال يدل على أن شعار الديمقراطية يستعمله الغرب فقط لإضفاء الشرعية على غزوه العسكري للعالم الإسلامي، ومن ثم عدم تحول أفغانستان الى دولة ديمقراطية حديثة، لا يُعتبر إخفاقا أمريكيا.
مقارنة الخسارة في الأرواح
أما من ناحية الخسارة في الأرواح والأضرار الجسدية، فخلال عشرين سنة من الحرب في أفغانستان لم يتعدى قتلى الجيوش الأمريكية 2400 قتيلا وحوالي 20700 جريحا. هل من كانت هذه هي خسائره خلال عشرين عاما من الحرب، يُعتبر منهزما؟ هل هذا العدد من الخسائر في الأرواح يمكن أن يكون عامل ضغط لإجبار أي دويلةٍ على إنهاء الحرب، ناهيك عن دولة كبرى بحجم الولايات المتحدة الأمريكية؟ لا أبدا، كل من له ذرة فهم في السياسة الحربية يدرك أن خسارات بهذا الحجم، بل وحتى أضعاف ذلك، لا تبالي بها الدول ولا تأثر على قراراتها البتة. أعداد القتلى والجرحى جراء حوادث السير في أمريكا تتعدى في عام واحد فقط بكثير أرقام الخسائر الأمريكية خلال عشرين عاما من الحرب في أفغانستان، حيث قُتل مثلا عام 1440-1441هـ / 2019م أكثر من 36000 ألف شخص في حوادث سير داخل الولايات المتحدة الأمريكية. وخسائر أمريكا في يوم واحد وموقع واحد خلال الحرب العالمية الثانية، وبالضبط ضمن عملية الإنزال في نورماندي (تقع في الشمال الغربي لفرنساويحدها بحر المانش) يوم 14 جمادى الثانية 1363هـ (6 يونيو 1944م)، والتي فاتت 6000 قتيلا، تفوق عدد قتلى الأمريكيين في أفغانستان خلال عشرين عاما!
ثم إنه من المغالطات الفاضحة تشبيه حرب أمريكا العشرينية في أفغانستان بحربها (أي أمريكا) العشرينية في فيتنام (1375هـ – 1395هـ / 1955م – 1975م)، فخلال حرب فيتنام قُتل ما لا يقل عن 58000 أمريكي وجُرح أكثر من 150000. ناهيك عن أن فيتنام الشمالية كانت مدعومة من قِبل روسيا والصين ضد أمريكا الموالية لفيتنام الجنوبية.
في المقابل قُتل 141000 “أفغاني” على أقل تقدير خلال حرب أفغانستان العشرينية، من بينهم حوالي 43000 من عناصر طالبان و38000 من المدنيين (العدد يشمل فقط الذين قتلوا قتلا مباشرا، دون تعداد الذين قتلوا بطريقة غير مباشرة نتيجة قلة الدواء مثلا أو الغذاء الخ)، ناهيك عن أكثر من 350000 من النازحين والمُهجرين. كما قتلت أمريكا عددا من قياديي طالبان من الصف الأول، وعلى رأسهم – على سبيل المثال لا الحصر – الملا أختر منصور، أمير “الإمارة الإسلامية في أفغانستان” وزعيم طالبان بعد وفاة مؤسسها الملا عمر، حيث استهدفته طائرة أمريكية مسيرة سنة 1437هـ (2016م) في الأراضي الباكستانية إبان عودته من رحلة الى إيران. كما قُتل عبد الرحيم منان سنة 1440هـ (2018م) بنيران طائرة أمريكية دون طيار، وهو أحد أعضاء رئاسة الأركان العسكرية في حركة طالبان، وكان منان يعتبر أيضا الحاكم “الشبح” في محافظة هلمند، المجاورة لمحافظة قندهار معقل حركة طالبان.
تكلفة حرب أفغانستان المالية للولايات المتحدة الأمريكية
عدة جهات أمريكية، حكومية وأكاديمية، أصدرت تقارير عن حجم تكلفة الحرب العشرينية في أفغانستان، حيث ذهب مثلا تقرير “مشروع تكاليف الحرب” لمعهد واتسون للشؤون الدولية والعامة في جامعة براون الأمريكية، الى أن حرب أفغانستان كلفت الخزانة الأمريكية حتى الآن ما لا يقل عن 2.261 تريليون دولار. وقال الرئيس الأمريكي بايدن بأن حرب أفغانستان كلفت 300 مليون دولار يوميا.
لكن وجب هنا الوقوف عند الناحية المالية المتعلقة بحروب الولايات المتحدة الأمريكية، فالتقارير غالبا ما تكتفي بذكر نفقات الحروب، لكن قلما تتطرق لأهمية الحروب في تنشيط الاقتصاد الأمريكي وتحفيز تطوير الصناعة العسكرية وتجريبها، وقلما تحصي الإيرادات المالية المباشرة وغير المباشرة، إيرادات متوسطة وطويلة المدى. من الإيرادات المباشرة تنشيط تسويق وبيع الأسلحة مثلا. ومن الإيرادات غير المباشرة ما هي ناجمة عن توسع النفوذ العسكري والسياسي الأمريكي في العالم والتحكم بمنابع المواد الخام الحيوية لاقتصادها واقتصاد العالم، وربط دولٍ بأمريكا، الخ. فمنذ دخولها الحرب العالمية الأولى، تذوقت الولايات المتحدة الأمريكية الأرباح الخيالية من خلال الحروب، فالاقتصاد الأمريكي يعتمد بشكل كبير على الصناعة الحربية، الولايات المتحدة الأمريكية نشأت أصلا من رحم الحروب والإبادة الجماعية للسكان الأصليين لأمريكا، ومن ثم فالمجمع الصناعي العسكري الأمريكي قديم قدم الدولة نفسها، لكن تَوَسَّع نفوذه وهيمنته على الاقتصاد الأمريكي والعالمي منذ الحرب العالمية الثانية. فقد خاضت الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 20 حربا مباشِرَة منذ الحرب العالمية الأولى، أي بمعدل حربين كل عشر سنوات. فهناك ملايين أماكن العمل في مجال التصنيع الحربي والشركات التي تمد المصانع الحربية بما تحتاجه من قطع غيار وبرمجيات ومعدات الخ، ناهيك عن ملايين الجنود والمجندين الأمريكيين.
حرب أفغانستان، فإنها وإن كانت تكلفتها باهظة، لكن – على أقل تقدير – كان لها دور في تنشيط الصناعة الأمريكية، ودفع دول المنطقة لشراء الأسلحة، الخ.
فلا أظن أن تكلفة حرب أفغانستان المالية سبب حقيقي لانسحاب أمريكا من أفغانستان، ولو أنه يمكن أن يكون كان لها دورا ما – ثانويا – في قرار الانسحاب.
اتفاق الدوحة انتصار لطالبان أم زلل منهجي يُؤذِن بإنشاء دويلة لا تختلف عن باقي دويلات سايكس بيكو في العالم الإسلامي؟
«النص الكامل لاتفاقية السلام بين طالبان والولايات المتحدة الأمريكية»
أخطر ما في اتفاق الدوحة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالبان، والذي ينذر بانزلاق طالبان نحو الخسارة ونشأة دويلة أفغانية خاضعة للنظام الدولي، لا تختلف كثيرا عن دويلات سايكس بيكو الخمسين ونيف الأخرى في العالم الإسلام، هي الشروط التالية:
- شرط تكوين حكومة توافقية ناتجة عن تفاهمات بين كل الأطراف الأفغانية، بما فيها تلك التي كانت تعمل تحت إمرة الولايات المتحدة الأمريكية وتقاتل طالبان وتحارب كل مشروع إسلامي، وربط التزام طالبان بحكومة ترضى عنها دول الغرب بالاعتراف بتلك الحكومة دوليا ورفع العقوبات عن طالبان وقياداتها، وتقديم “مساعدات” لأفغانستان.
- شرط التزام طالبان بالتعاون الاستخباراتي والأمني مع الولايات المتحدة الأمريكية وربط حق سفر أي مسلم لأفغانستان أو الإقامة فيها أو الحصول على حق اللجوء والإيواء بموافقة المخابرات الأمريكية على ذلك، أي التنسيق مع المخابرات الأمريكية ولوائحها السوداء التي تشمل كل المغضوب عليهم أمريكيا قبل منح أي مسلم حق السفر من وإلى أفغانستان أو الإقامة. فكل من كان من المغضوب عليهم أمريكيا، مصنفين في لائحة سوداء حسب الشروط الأمريكية، فلا يجوز لحكومة طالبان منحهم تأشيرات إقامة أو جوازات سفر أو تصاريح سفر أو غيرها من الوثائق القانونية.
هل المنتصر يقبل أن يحدد له عدوه أو أي جهة خارجية نوع الحكومة ونظام الحكم ويشترط عليه الدخول في مفاوضات داخلية مع كل الأطياف السياسية وإدماجها في إنشاء حكومة توافقية وفي القرارات السياسية، وإنشاء حكومة ووضع قوانين تُرْضِي دولاً أخرى؟ هل المنتصر يقبل أصلا ان يوضع نظام الحكم ونوع الحكومة والمشاركين في إنشائهما، محل نقاش وتفاوض ومقايضات مع أي جهة خارجية؟ ولماذا تناقش طالبان أصلا مسألة الشريعة مع دول الغرب؟ القول الوحيد الفاصل الذي يقوله المنتصر، الذي يقوله الحر، الذي يقوله سيد نفسه: “لا دخل لكم في نوع نظام الحكم والقوانين التي سنقيمها وليست محل تفاوض، ولن نناقشها مع أي دولة!”.
فالمسلمون الذين يتطايرون فرحا تصريحات طالبان للغرب بأنها (أي طالبان) تريد إقامة إمارة إسلامية وتحكيم الشريعة، ويتطايرون تصريحات طالبان بشأن حقوق المرأة وأن النساء سيُعامَلون وفق الشريعة، لا يدركون أن هذه التصريحات دليل انهزام وضعف وليس قوة وانتصار، دليل عقدة النقص وليس دليل ثقة بالنفس. فالمسلمون لا يجوز لهم البتة نقاش نظام الحكم والتشريع الذي يريدون التحاكم إليه وإقراره في بلدهم الإسلامي مع دول الغرب أو أي دولة في العالم، هذه مسالة داخلية تخص المسلمين فقط، لا توضع البتة موضع نقاش ولا مساومات ولا مفاوضات مع أي دولة في العالم. المجتمع الحر الذي يملك سيادته الكاملة، يضع نظام حكم وقوانين حسب قناعاته وعقيدته هو، وليس حسب رغبة أي دولة أو شعب في العالم، ولا يبالي برأي الغير في نظام حكمه وقوانينه ولا يعيرها اهتماما، ولا يحاول الدفاع عن نمط نظامه وقوانينه ولا تبريرها لدى الدول الأخرى.
وهل المنتصر، وهل الدولة المستقلة الحرة ذات السيادة الكاملة، تقبل أن تحدد لها دول أخرى شروط منحها تأشيرات الإقامة أو جوازات السفر أو تصاريح سفر أو غيرها من الوثائق القانونية؟
نعم، كان خطأ كبيرا من طالبان واختراقا استخباراتيا لسياساتها، ودليل على ضعف مفاهيمها في السياسية الشرعية، حين سمحت في الماضي لتنظيم القاعدة باستخدام أفغانستان كمقر للتخطيط لأعمال إرهابية في العالم، فالأعمال الإرهابية لا تقرها الشريعة الإسلامية ولا يقرها العقل السليم. فالدول لا تنشأ بالأعمال الإرهابية، والأعمال الإرهابية لا تؤدب دولة ظالمة ولا توقف طغيانها، ولا تخدم المستضعفين، بل تخدم الجبابرة والطغاة. فمن أراد إيقاف طغيان دولة، فعليه أن يقيم دولة عدل قوية عسكريا تواجه هي الدولة الظالمة، تواجهها سياسيا وعسكريا بالطرق المتعارف عليها عالميا وتاريخيا في كيفية مواجهة دولة لدولة، … دولة لا تستهدف المدنيين، ولا تقتل غيلة وغدرا. فتنظيم القاعدة والجماعات التي على شاكلتها، كانت وبالا على المسلمين، خدمت بأعمالها الإرهابية – عن جهل أو علم – دول الغرب والمخابرات الدولية وأنظمة سايكس بيكو المتحكمة في العالم الإسلامي.
فقد كان على طالبان حين تولت الحكم في أفغانستان سنة 1416هـ (1996م)، كما عليها اليوم، تركيز كل الجهود على بناء دولة مبدئية ذات قوة ذاتية – ولو كانت قوة نسبية، المهم ذاتية –، بدلا من الدخول في مغامرات مع تنظيم القاعدة (كما فعلت في الماضي) ودفعت ثمنا غاليا لتعلم الدرس. وكان على طالبان في الماضي – كما عليها اليوم – لغرض بناء دولة، جلب مسلمين وغير المسلمين من كل بقاع العالم من ذوي الكفاءات في شتى المجالات (في الفقه والسياسة الشرعية، الاقتصاد، الصناعة، البرمجيات، الخ) وتمنحهم الجنسية، وتُشعر كل المسلمين في العالم أن الدولة في أفغانستان هي دولتهم، هي دار الهجرة لمن أراد من المسلمين المستضعفين الإيواء إليها، كما كانت المدينة – كأول ركيزة لدولة الإسلام – درا للهجرة في عهد الرسول، ….
ومن ثم، نعم يجوز الاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية على أن تمنع طالبان جماعات أو أفراد أن يستعملوا أفغانستان مقرا للتخطيط لعمليات إرهابية، فهذا مطلب شرعي ابتداء، لكن لا تمنع المسلمين من حمل آراء وأفكار لا ترضى عنها أمريكا، فالممنوع هو العمل المادي المسلح وليس الفكر والرأي. لكن منع مخططات إرهابية ضد أي جهة في العالم يجب تنفيذه ضمن ما تبيحه أحكام الإسلام، فلا يُربط بقوانين منح تأشيرات الإقامة أو منح الجنسية، فإيواء المسلمين فرض على كل من يدعي أنه أقام دولة تحكم بالشريعة. كما أن دولة الشريعة لا تسلم مسلما ولا ذميا لأي دولة في العالم، ولكن تُحاكمه هي في محاكمها إذا ثبت تورطه في أي عمل إرهابي – وليس محاكمتهم على أفكارهم التي لا ترضي الغرب ودويلات سايكس بيكو –، وعلى الدول التي تدعي تورط مسلم في أعمال إرهابية أن تقدم الأدلة على ذلك وترفع دعوى ضد المتهمين في محاكم دولة المسلمين. فالله قال عن أمة الإسلام ودولتها وواجبهما في إيواء المستضعفين وحمايتهم من الظلم والبطش: {مَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (سورة النساء). وقال رسول الله: “الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” (صحيح البخاري). وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: “مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْضِعٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ” (مسند أحمد).
فدولة الشريعة عليها منع المسلمين المقيمين في أفغانستان من تدبير أعمال إرهابية ضد أي دولة أو جهة في العالم، لكن ليس حرمانهم من حقوقهم “المدنية” و”الإدارية” التي أثبتها الشرع، كحق الإقامة وغيرها، تماما كما تفعل – أو يجب أن تفعل – كل دولة قانون في العالم مع رعاياها. فأمريكا مثلا تعج بالجماعات المسلحة والجماعات المتطرفة، وتسمح لها بإقامة مراكز تدريب على السلاح الخ، ولا تحرمهم الولايات المتحدة الأمريكية من حقوقهم في الجنسية والإقامة والسفر وحرية التعبير، لكن الدولة تراقبهم عن بعد وتتدخل فقط حين يجتمع لديها قرائن على مخطط لعمل مسلح.
وأمريكا مثلا، وغيرها من دول الغرب، تستقبل أفرادا تعتبرهم دول أخرى إرهابيين ويهددون أمنها، فلا تمتثل لشروط تلك الدول في تصنيف من هو الإرهابي ومن يشكل خطرا على أمن دولةٍ، فتمنحهم تأشيرات الإقامة أو جوازات السفر أو تصاريح سفر أو غيرها من الوثائق القانونية، ضد إرادة تلك الدول. وتجد دولا غربية تدعم جماعات وتتعامل معها، رغم تصنيف دول أخرى لها على أنها إرهابية، لأن الامتثال لها تعتبره انتقاصا لسيادتها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تمتنع الولايات المتحدة الأمريكية عن تسليم المعارض والداعية التركي فتح الله غولن، الذي تعتبره تركيا إرهابيا وأحد الرؤوس المخططة لمحاولة الانقلاب العسكري في تركيا سنة 1437هـ (2016م). كما تدعم الولايات المتحدة الأمريكية عدة جماعات كردية مسلحة تصنفها تركيا على أنها جماعات إرهابية تقوم بأعمال إرهابية داخل تركيا وتهدد الأمن القومي التركي وتسعى لتقسيم تركيا. فمثلا تدعم أمريكا “وحدات حماية الشعب” في سوريا، ولم تستجب لطلبات تركيا واحتجاجاتها المتكررة من أجل إيقاف دعم تلك الجماعات الإرهابية وعدم تمكينها من نقاط ارتكاز في سوريا أو العراق.
اقرأ أيضا: «”هيئة تحرير الشام” انضمت لطابور حركات “الاستقلال” تحت وصاية النظام الدولي»
خلاصة
مما تقدم ذكره، يمكن استخلاص التالي:
- الولايات المتحدة الأمريكية انسحبت من أفغانستان ليس لأن طالبان انتصرت عليها عسكريا وسحقتها واضطرتها للفرار، ولكن لدواعي ودوافع ذاتية لأمريكا، لا يُعلم حتى الساعة كل تفاصيلها وخلفياتها. فالحرب العشرينية لأمريكا في أفغانستان لم تكلفها مثلا إلا خسائر جد ضئيلة في الأرواح، خسائر وكأنها كانت في نزهة وليس في حرب. أما النفقات المادية لأمريكا في الحرب الأفغانية، فلا شك أنه كان لها فوائد في تنشيط الاقتصاد الأمريكي بتحفيز كل أنواع الصناعات العسكرية ومتعلقاتها، وتنشيط بيع الأسلحة في المنطقة، الخ. فالاقتصاد الأمريكي، كما سبق الذكر، يعتمد على الحرب والصناعة الحربية.
- الانتصار شبه الوحيد الذي يمكن نسبه لطالبان، هو عدم قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على إبادتها وقلع نفوذها كلية من أفغانستان. لكن يجب التفريق بين صمود طالبان وقدرتها على البقاء – بغض النظر عمن قدَّم لها العون والسلاح للقدرة على الصمود –، وبين القدرة مؤخرا على اكتساح طالبان المفاجئ والسريع لمعظم الأراضي الأفغانية بما فيها العاصمة كابول. فطالبان رغم قدرتها على الصمود والبقاء، إلا أنها لم تكن لها قط القدرة العسكرية على هزيمة قوات التحالف التي تقودها أمريكا، فطالبان لم تكتسح الولايات الأفغانية إلا بعد انسحاب جيوش أمريكا وحلفائها منها – بعد اتفاق الدوحة –، ورفع أمريكا يدها عن حكومة كابول وجيوشها التي كونتها أمريكا. فالتحليل الراجح هو أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد تمكين طالبان من الحكم في أفغانستان لـ”حاجة في نفس يعقوب”، لم تتضح معالمها حتى الساعة!
- بنود اتفاق الدوحة لوحدها، دون اعتبار أي تفاهمات واتفاقيات سرية مُحتملة، الى جانب تصريحات طالبان وأفعالها منذ دخولها كابول، يشير الى حد كبير أن الولايات المتحدة الأمريكية استطاعت احتواء طالبان، ولن تتردد (أي أمريكا) في الانقلاب عليها من جديد (أي على طالبان) إذا لم تلتزم بالخط المتفق عليه في الدوحة وفي أي تفاهمات سرية مُحتملة. فالراجح أننا على وشك ولادة نظام وظيفي جديد في أفغانستان، لا يختلف كثيرا عن أنظمة سايكس بيكو الوطنية في باقي العالم الإسلامي، حتى لو أطلق حكامها (أي حكام الدويلة الجديدة في أفغانستان) اللحى ولبسوا الثوب الطويل، وأقاموا بعض مظاهر الإسلام وبعض أحكامه. فيمكننا في أحسن الأحوال وبكثير من التفاؤل القول أن انتصار طالبان انتصار ناقص على أقل تقدير، إن لم يكن وهميا الى حد ما.
أخيرا وليس آخرا، نعم يجوز للمسلمين الفرح بخروج جيوش الاحتلال من أي بلد مسلم، كما حصل الآن في أفغانستان، لكن الفرحة لا يجوز أن تكون عمياء ويقتصر المسلمون على التطبيل لطالبان دون التدقيق في تفاصيل وشروط خروج قوات الاحتلال، ودون محاسبة طالبان وتقييم أدائها حسب الشرع الإسلامي الذي تدعي الحركة اتباعه. فالفرحة الكاملة الحقيقية لا تتحقق إلا بخروج المحتلين خروجا نهائيا فعلا، يلغي كل نفوذهم، سواء نفوذ سياسي أو تشريعي أو فكري أو استخباراتي أو أمني أو اقتصادي، بحيث لا يتحكمون في أي جزئية من سياسة المسلمين الداخلية والخارجية، ولا الاقتصادية والمالية، ولا الأمنية والحربية. فدويلات سايكس بيكو الوطنية في العالم الإسلامي علمتنا أنه رغم تحقيق غالبيتها لـ”الاستقلال” الرمزي، بحيث خرجت جيوش الاستعمار من البلاد، إلا أن الأنظمة المحلية التي تولت السلطة بقيت تابعة لدول الغرب، بل خادمة لها، تخدم مصالحها الأمنية والاستخباراتية والاقتصادية والحربية والتوسعية، وانخرطت معها فيما بات يسمى “محاربة الإرهاب”، والتي تعني حقيقة “محاربة الإسلام” ومنع تحرر المسلمين. فهل ستنضم دويلةٌ في أفغانستان، تحت قيادة طالبان، للائحة دويلات سايكس بيكو، تدور ضمن الفلك الذي تسمح به أمريكا؟
ثم يجب التنبيه الى أنه لا يجوز اغترار المسلمين بإقامة طالبان لبعض أحكام الشريعة وبعض الحدود، كفرض الحجاب مثلا وقطع يد السارق وإعدام القاتل العمد، فدويلة السعودية مثلا أقامت لعقود غالب الحدود وفرضت مظاهر الإسلام في الحياة العامة الخ، لكنها كانت في نفس الوقت تخدم مصالح أمريكا وإسرائيل وتتواطأ مع الغرب في محاربة الإسلام والمسلمين، ومَوَّلَت حروب الغرب ضد الاتحاد السوفياتي سابقا وضد بلدان إسلامية. فالإسلام نظام حكم شامل لا يقتصر على المظاهر الاجتماعية وعقوبة المجرمين من الافراد الخ، بل يشمل كذلك أحكاما تتعلق بولاء الدولة للإسلام والمسلمين، إيوائهم وحمايتهم وخدمتهم وعدم تسليمهم لأي دولة في العالم، وبراءتها (أي دولة الإسلام) من كل دول الكفر المحاربة للإسلام والمسلمين، … الإسلام يشمل أحكاما تتعلق بالاقتصاد والمال ووجوب إعداد قوة ذاتية كافية لردع كل دولة تريد الاعتداء على المسلمين. فالإسلام لا يقبل أن يكون المسلمون رهينة أي دولة في العالم، يجب أن تكون لهم السيادة الكاملة على خيراتهم (كالمعادن والنفط والغاز الطبيعي، الخ) والتصرف فيها بما يخدم مصالحهم وليس مصالح دول أخرى، ….
نصيحة تتعلق بإقامة الحدود الشرعية
لا شك أن إقامة الحدود فرض على أمة الإسلام إذا أصبحت لهم دولة ذات سلطان نافذ تتولى إقامتها، إلا أنه وجب التنبيه الى أمرين:
- الحدود لا تُقام إلا بالبينة المبنية على اليقين، ولا يجوز إقامتها على أساس شبهات أو لجهل الجاني بالأحكام الشرعية. فمثلا لا يُقطع من سرق لأنه ليس لديه عمل يعول به نفسه وأهله.
- تقام الحدود من جلد وقطع وإعدام في غرف مُغلقة يحضرها نفر من المؤمنين (من بينهم المعنيين بالجريمة كأفراد من أسرة الضحية والجاني) مجردين من كل آلات التصوير والتسجيل، فقط إدارة الدولة المعنية بتنفيذ الحكم يجوز لها تصوير عملية إقامة الحد دون نشرها، لتُستعمل فقط كأدلة في المحكمة في حالات رفع مظالم ضد الجهة التنفيذية إذا حصل منها خلل أو خطأ أو ظلم في طريقة تنفيذ الحد، ولتكون مادة لتعليم المنفذين كيفية إقامة الحدود بطريقة سليمة كما بينها الشرع، الخ. فلا تُقام الحدود في الساحات والشوارع العامة، ولا تُصور وتُعرض على عامة الناس والعالم، ولا تُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، فالله قال في سورة النور: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}، فالشاهد هنا قول الله (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)، أي يشهد مجموعة من المؤمنين إقامة الحد وليس كلهم، ناهيك عن كل الناس في العالم. فالنفس البشرية بطبعها تنفر من رؤية الدم والضرب، لذلك قال سبحانه (وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) لعلمه بالنفس البشرية. فإن كان واجب على الحاكم والقاضي ومنفذ الحكم إقامة الحدود بالطريقة التي أمر بها الله دون رأفة، إلا أنه لا يُنتظر ذلك من عامة الناس، فغالبية الناس قد تنفر من رؤية تنفيذ الحدود ليس بالضرورة اعتراضا على حكم الله، ولكن فقط بدافع نفورهم من رؤية العنف، تماما كما ينفر مثلا كثير من الناس من رؤية دجاج أو بهائم تُذبح، رغم إيمانهم بأن ذبحها للأكل صحيح وشرعي وواجب، ومن ثم يتولى العملية من ليست عنده مشكلة مع ذبح الحيوانات، دون إجبار غيرهم على رؤية عملية الذبح. ثم إن أعداء الإسلام يمكنهم استغلال مشاهد الإعدام والقطع والجلد وطبيعة البشر التي تنفر في الغالب من الدم والضرب، لتأجيج الرأي الشعبي العالمي ضد الإسلام. فالحدود لا تُقام للتباهي بها أمام العالم ولا لإجبار العالم على رؤية تنفيذها، ولا لترويع الناس، ولكن لاسترداد حقوق المظلومين والضحايا وإنصافهم وزجر المجرمين. فمع إقامة الحدود، يجب أيضا مراعاة الشعور العام لدى عموم الناس تجاه الدم والعنف، فيتم تجنيبهم رؤية ذلك، فها هو الرسول يوم فتح خيبر، يقول لبِلاَلٍ رضي الله عنه حين مَرَّ بامرأتين من سبايا خيبر وهما صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وأُخْرَى مَعَهَا عبر الساحة التي كان يُعدم فيها جنود خيبر: “أَنُزِعَتْ مِنْكَ الرَّحْمَةُ يَا بِلَالُ، حِينَ تَمُرُّ بِامْرَأَتَيْنِ عَلَى قَتْلَى رِجَالِهِمَا؟” (سيرة ابن هشام). … واليوم تنفذ الولايات المتحدة الأمريكية أحكام الإعدام في غرف مغلقة، بعدما كانت تقوم بها في الماضي في الساحات العامة، ولا يشهدها اليوم إلا زمرة قليلة من الناس في الغرق المغلقة، دون السماح لهم بالتصوير المرئي ولا التسجيل الصوتي.