آراء قصيرة

لم تكن هناك أمة جزائرية: صدق ماكرون وهو كذوب

خلال تكريم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لجزائريين حاربوا في صفوف الجيش الفرنسي ضد “الثوار” في الجزائر، والذين يُطلق عليهم اسم “الحركى”، صرح من جديد بكلام أغضب – من جديد – “الجزائريين” والمسلمين عموما، ولعل أهم جملة أثارت حفيظتهم، سؤاله (أي ماكرون) الاستنكاري: [هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟] (انتهى الاقتباس).

نعم، صدق ماكرون وهو كذوب! 

فعلا لم تكن هناك قط “أمة جزائرية” ولن تكون. كما أنها لم تكن هناك أمة تونسية ولا مغربية ولا ليبية ولا مصرية ولا خليجية ولا سعودية ولا قطرية ولا فلسطينية ولا سورية، الخ ….، كذلك ليست هناك أمة عربية ولم ولن تكون، … الذي كان هو أمة الإسلام وحسب، أمة واحدة لا تُعَرِّف نفسها بحدود جغرافية {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (سورة المؤمنون)، {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (سورة الأنبياء)، … أمة لا تُعَرِّف نفسها بلون البشرة أو موطن الولادة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات)، «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى» (حديث الرسول، مسند أحمد)، أمة لا تُعَرِّف نفسها وتميزها باللهجة واللغة التي ورثتها عن الأجداد، ولا بنوع الطعام الذي تعشق ولا الثوب الذي تلبس، ولكنها كانت أمة تتميز بميزة واحدة فاصلة وهي حملها لرسالة الإسلام العالمية، رسالة تحدد لها الحلال والحرام، وتَحْمِلُها على إقامة العدل ومنع الظلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رسالة تُحَمِّلها (أي تُحَمِّل أمة الإسلام) مسؤولية هداية البشرية جمعاء وإنقاذها من جهنم، … أمة تعتبر أصلها امتداد للأمة المؤمنة التي أنشأها رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، وليست امتداد لحضارات كافرة جاهلة كانت تعيش قبل الإسلام في البقعة الأرضية التي يعيش فيها المسلمون اليوم، كالحضارة الفرعونية والآشورية وغيرهما {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (سورة البقرة)، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة آل عمران)، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} (سورة آل عمران). …. أمة سماها الله بالمسلمين، اسمٌ مشتقٌ من عقيدتها ورسالتها وليس من بقعة الأرض التي تعيش فيها أو من سلالة عرقية {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (سورة الحج).

«ملف مقاطعة فرنسا»

نعم، صدق ماكرون وهو كذوب، إذ لما دخلت جيوش الاحتلال الفرنسي (وغيرها من جيوش دول الغرب) لبلاد المسلمين، لم يجدوا أمة جزائرية ولا عربية ولا تونسية ولا مغربية ولا خليجية الخ، ولكن وجدوا بقايا باهتة من أمة الإسلام، فصنع المحتل الفرنسي – كما فعل غيرهم من المحتلين الغربيين في مناطق أخرى من بلاد المسلمين – من شعب تائه ضعيف هزيل متخلف ماديا وفكريا، فاقد لهويته، صنع منه شعبًا وطنيا أصبح يُعَرِّف نفسه على أساس جغرافي، على أساس حدود رسمها المستعمر، شعبا أصبح يسمي نفسه زورا “أمة الجزائر”. فقد صنعت فرنسا وغيرها من دول الاحتلال الغربية في العالم الإسلامي شعوبا تؤمن بحدود سايكس بيكو وتقدسها وتستميت في الحفاظ عليها، إنها “أمم” سايكس بيكو!

فأنتم يا شعوب المسلمين – إلا من رحم الله – “الأبناء غير الشرعيين” لفرنسا أو بريطانيا أو أمريكا (المقصود البنوة الفكرية والثقافية)، وكل همكم أن يعترف بكم الغرب لتصبحوا “أبناء شرعيين”!… تحولتم من كونكم أمة واحدة تربطها رابطة الإسلام، تطبق قوانينه في الحياة وتحمل رسالة الإسلام للعالم، تقف في وجه الظالم وتأوي المظلومين وتحميهم وتنصفهم وتدافع عنهم، … تحولتم لـ”أمم” وطنية متناحرة فيما بينها، “أمم” وطنية تسكت عن الظلم وتسانده وتعشق حكامها الظالمين، “أمم” وطنية ممسوخٌ فِكْرها ومشاعرها ومظهرها ولسانها، لا تحمل مبدأ ولا قِيَمًا ومن ثم لا قيمة لها ولا مكان بين دول العالم، … “أمم” وطنية يحتقر بعضها البعض، لكنها تتفق على تقديس الغرب، وتتبنى أفكاره في غالب شؤون الحياة، وعلى رأسها الشؤون السياسية والمالية والاقتصادية، تقلد الغرب في كل شيء وتقدس ثقافته وعلى رأسها لغته، …

«اقرأ أيضا: ألم يحن الوقت لتقاطعوا اللغة الفرنسية؟»

حتى غضبكم (إلا من رحم الله) من تصريحات رؤساء فرنسا وسياساتها ورَدَّات فعلكم، سطحية تافهة، غضبُ المهرجين (ولا أتكلم عن الغضب التمثيلي لحكام المسلمين، فهؤلاء عبيد الغرب لا يغضبون فِعْلاً إلا لما يُغضب الغرب)، …

فمن الأمور التي تدعوا للسخرية وتدل على الحماقة وعقدة النقص وانفصام في الشخصية، أن تجد مثلا كثيرا من المسلمين الذين يهاجمون فرنسا ويغضبون لإهانتها لهم ولدينهم ونبيهم واضطهادها للمسلمين، ويعتبرون فرنسا دولة استعمارية انتهكت بلادهم وأرواحهم وأعراضهم ودينهم، ويعترفون أنها لازالت تعاديهم اليوم وتدعم الحكام الطغاة الذين يحكمون بلاد المسلمين، وينادون بقلع الاستعمار الفرنسي الذي لازال يحكم بلدانهم عن طريق حكام عملاء، .. تجد نفس المسلمين لازالوا لم يتحرروا من الاستعمار الثقافي الفرنسي، فيصرون مثلا على استعمال اللغة الفرنسية أو كلمات فرنسية في حديثهم وكتاباتهم (كما يصر غيرهم من المسلمين التباهي بكلمات انجليزية)، ناهيك عن تبني دولهم اللغة الفرنسية (أو اللغة الإنجليزية في المستعمرات البريطانية) كلغة إدارات الدولة ومؤسساتها ولتدريس كثير من العلوم وعلى رأسها العلوم التجريبية.

«اقرأ أيضا: “الشباب يطرب باللغة الإنجليزية”.. عذرٌ أقبح من ذنب»

ما الذي يدفعك أيها المسلم لخلط كلمات فرنسية (أو إنجليزية) في حديثك مع مسلمين يعرفون العربية مثلك؟ أليست ظاهرة خلط المسلم الذي يعرف العربية كلمات أعجمية في كلامه وكتاباته غريبة ومشينة وعلامة على عقدة النقص، تحط من قيمته وتجعله محل سخرية؟

إذا كانت فرنسا تعتز بلغتها وعلمانيتها وتتشبث بهما، بل وتحاول فرضهما على الغير، فلماذا لا تعتز أنت أيها المسلم بدينك ولغتك العربية، لغة القرآن والسُّنَّة؟

إذا كانت فرنسا تسبك وتحقرك، وتستهزئ من دينك ولغتك وحضارتك، بل وبنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف تعتز أنت بلغتها وثقافتها، وتصر على خلط كلمات فرنسية في كلامك؟

فالغضب الذي لا يكون مصحوبا بمواقف عملية جادة، غضب تافه سطحي، غضب مهرجين! كيف لشعوب أن تتحرر وهي تغوص في وحل التبعية السياسية والاقتصادية والمالية والثقافية واللغوية للدول التي تدَّعي أنها تريد التحرر من هيمنتها؟ كيف لشعوب أن تتحرر وقد نسيت تاريخها، وجهلت حاضرها، وأعرضت عن دينها ولغتها، وتفضل الحديث بلغة الدول التي استعمرتها واستعبدتها، وتتبنى أنظمتها في الحكم والاقتصاد؟ كيف يتحرر ويساهم في تحرير أمته، من لم يستطع حتى تحرير لسانه الخاص بحيث لا يدمج كلمات أعجمية؟

لا يهم رأي فرنسا فيكم أيها المسلمون وفي حضارتكم ونبيكم ودينكم، ولكن المهم موقفكم أنتم العملي من كل ذلك!

«اقرأ أيضا: يا أهل الجزائر: لماذا تستبدلون بالفرنسية الإنجليزية وليس العربية؟»



 

جميع الآراء الواردة بهذا المقال تعبر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

Print Friendly, PDF & Email
اظهر المزيد

د. هشام البواب

الدكتور هشام البواب، ناقد ومحلل سياسي واجتماعي مستقل . مقالاته تشمل موضوعات سياسية واجتماعية وفقهية وعلوم تجريبية :::::: بعض كتابات الدكتور هشام البواب في الرابط التالي: https://atanwir.com/منشورات-الدكتور-هشام-البواب ::::::: hicbou1@mailfence.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Enter Captcha Here : *

Reload Image

زر الذهاب إلى الأعلى