علوم شرعية وفقهية

نصرة الرسول هي الغائبة في حملات نصرة الرسول

منذ انطلاق الحملات الإعلامية المستهدِفة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم بمختلف أنواع الإساءة من سخريةٍ وقذفٍ واستهزاءٍ، في عدة بلدان غربية ابتداء من سنة 1425هـ (2004م)، وعلى رأسها الدنمارك وفرنسا، انطلقت عدة حملات متتالية لـ”نصرة الرسول”، أهمها مؤتمرات متتالية تجمع مئات علماء المسلمين من كل بقاع العالم ترعاها كل مرة أحد الحكومات في العالم الإسلامي، كان أولها – حسب علمي – مؤتمر المنامة في البحرين سنة 1427هـ (2006م)، وآخرها مؤتمر إسطنبول بتركيا يوم 19 ربيع الأول 1443هـ (26 أكتوبر 2021م) الذي أطلقوا خلاله تأسيس «الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام»

«أقوال وآراء للعلماء والدعاة في المؤتمر العالمي لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم مؤتمر المنامة في البحرين سنة 1427هـ (2006م)»

مجمل ما خلصت إليه كل تلك المؤتمرات هو أن المسلمين مقصرين في التعريف بالإسلام وبنبي الإسلام محمد، وأن إساءة الغرب للرسول سببه جهلهم بسيرته، وعليهم (أي المسلمون) اتخاذ أساليب وأدوات للتعريف بالرسول وسيرته لدى الغرب خصوصا، بأهم اللغات الحية المتداولة في العالم اليوم. وهكذا نشأت عدة صفحات على شابكة الحواسيب، من بينها موقع نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموقع نصرة سيدنا محمد رسول الله، الى جانب «الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام» التي تم الإعلان عن تأسيسها مؤخرا.

مؤتمرات علماء المسلمين لنصرة الرسول ينطبق عليها المثل «تمخض الجبل فولد فأرا»! مخرجاتها سطحية تافهة لا تتطرق للب المشكلة، ناهيك عن طرح الحلول الجذرية الحقيقية. طرحهم لا علاقة له البتة بنصرة الرسول، فهم كمن يقول للذي شتمه شخص، عليك التعريف بنفسك وصفاتك الحميدة حتى لا يشتمك الناس! مؤتمرات دورها تفريغ المشاعر فقط ودغدغتها، لا تسمن ولا تغني من جوع!

اقرأ أيضا: «ما هو الدليل على التعريض بالرسول في كتاب مدرسي بالمغرب؟ ومن يحدد مفهوم القاصر وشروطه؟»

هل معرفة الرسول وسيرته تمنع الإساءة إليه؟

أول وأشد من أساء الى الرسول وآذاه وحاربه وشتمه، وقال عنه ساحر ومجنون، وضربه، ومنع الناس من الإيمان به وصدَّهم عنه، وحرَّض قبائل العرب عليه، وحاول قتله، هم قبيلة الرسول وأفراد أسرته وعلى رأسهم عمه أبو لهب الذي نزلت فيه سورة خاصة في القرآن {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}، ….. فعلوا ذلك (أي قبيلة الرسول وأسرته) وهم أكثر الناس دراية بالرسول وخلقه وسيرته، فهو ابنهم، ترعرع بينهم، يتحدث لغتهم، عاشرهم وخالطهم وتاجر معهم، وناسبهم، حتى أنهم كانوا يسمونه قبل النبوة بـ«الصادق» و«الأمين»، وكانوا يودعون أموالهم ونفائسهم عنده. يذكر ابن هشام في السيرة النبوية: [فَشَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ أَقْذَارِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَرِسَالَتِهِ، حَتَّى بَلَغَ أَنْ كَانَ رَجُلًا، وَأَفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً، وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وَأَكْرَمَهُمْ حَسَبًا، وَأَحْسَنَهُمْ جِوَارًا، وَأَعْظَمَهُمْ حِلْمًا، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً، وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ الْفُحْشِ وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي تُدَنِّسُ الرِّجَالَ، تَنَزُّهًا وَتَكَرُّمًا، حَتَّى مَا اسْمُهُ فِي قَوْمِهِ إلَّا الْأَمِينُ، لِمَا جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ الصَّالِحَةِ] (ا.هـ).

فمعرفة الكافر بالرسول وسيرته وخلقه ليست وازعا لكيلا يظلمه ويؤذيه، إلا إذا آمن به، وإلا لكانت قبيلة الرسول التي هي أكثر الناس معرفة به، قد آمنت به عن بكرة أبيها ونصرته، أو على الأقل توقفت عن إيذائه والكذب عليه والإساءة إليه، ولما اضطر الرسول للهجرة الى المدينة.

فتجَرُّؤ بعض الكفار اليوم على الإساءة للرسول، سببه ليس جهلهم به وسيرته، وإنما لأنهم أَمِنُوا العقوبة! دُوَلُهم تمنحهم الحصانة والحماية، ومن ثم تشجعهم على الإساءة للرسول. فالذي سيوقف تلك الإساءات، بغض النظر عن العلم أو الجهل بالرسول وسيرته، هو دولة إسلامية مستقلة مبدئية، تحكم بشرع الله حصريا، ومن ثم تتعامل مع دول العالم بالندية وعلى أساس الولاء والبراء، بحيث تفرض على كل دولة تريد التعامل مع دولة الإسلام أن تصدر قوانين تجَرِّم الإساءة للرسول محمد وتعاقب من فعل ذلك، تماما كما أجبرت إسرائيل غالب دول العالم على تبني قوانين ضد معاداة السامية، حيث تنزل عقوبة قاسية على مجرد التشكيك في عدد ضحايا الهولوكوست مثلا.

اقرأ أيضا: «“هيئة كبار العلماء” بوق للكفر البواح»

ما هي النصرة الحقيقية للرسول؟

إذًا النصرة الحقيقية للرسول تكون بإقامة دولة تطبق الشريعة الإسلامية كاملة، وتُعِد قوة عسكرية واقتصادية تزجر بها كل من يفكر في التجرؤ على المسلمين ومقدساتهم {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (سورة الأنفال).

نصرة الرسول تكون أولا بإقامة الذي جاء به {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (سورة آل عمران).

والعلماء دورهم الأول هو الدعوة والعمل لإقامة دولة للإسلام ذات شوكة تقيم الشرع، تمَكِّن المسلمين من حياة كريمة، وتأوي المهجرين والمستضعفين والمغتربين في بلدان الكفار وتحميهم، تماما كما كانت درا الإسلام في المدينة ملاذا للمسلمين، هاجروا إليها ليتمكنوا من إقامة الإسلام دون خوف واضطهاد، ومن العيش تحت رحمة الإسلام وعدله.

فالغائب في مؤتمرات علماء المسلمين لـ”نصرة الرسول”، هي نصرة الرسول: لم يأمر عالِمٌ قط، من الذين يجتمعون منذ عقود لـ”نصرة الرسول”، حاكما من حكام المسلمين بإقامة شريعة الإسلام وتحويل البلد الى دار إسلام. لم ينهى عالِمٌ من الذين يجتمعون منذ عقود لـ”نصرة الرسول”، حاكما من حكام المسلمين عن كبائر المنكرات والمحرمات التي يقومون بها، ناهيك عن صغائرها. فمئات العلماء الذين اجتمعوا مثلا مؤخرا في إسطنبول بتركيا لتأسيس «الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام»، كان عليهم أولا، نُصْرَةً للرسول، دعوة حكومة أردوغان بإقامة الشريعة كاملة، والانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وطرد كل الجيوش الغربية والروسية من تركيا، وإيقاف العلاقات مع الصين لاعتدائها على ملايين المسلمين، وعدم موالاة الدول التي تحارب الإسلام والمسلمين، ومنع الربا والدعارة والخمور والتبرج، واعتماد عملة تستند للذهب والفضة وليس للدولار الأمريكي، الخ … (نفس الشيء يجب أن يُؤمر به حكام كل باقي البلدان الإسلامية بدون استثناء).

علماء المسلمين الذين يجتمعون منذ عقود لـ”نصرة الرسول”، ليس فقط أنهم لا يأمرون حاكما من حكام المسلمين بالمعروف وينهوه عن المنكر، ويأمرونه بإقامة الشريعة، بل يبررون لهم عدم إقامة الإسلام، يسوغون قوانين الكفر، ويسوغون موالات الحكام لدول الكفر ضد المسلمين، بل ويحاربون من يدْعُوا لإقامة دولة الإسلام، يعتبرونهم متهورين يريدون استعداء العالم ضد المسلمين والتصادم معه ومن ثم تخريب بلدان المسلمين! العلماء الذين يدَّعُون حب الرسول ويجتمعون منذ عقود لـ”نصرته”، لا يؤمنون أصلا بوجوب إقامة الشريعة، بل ويُخَوِّفون الناس منها، يعتبرون أنه لا الشعوب المسلمة ولا النظام الدولي مستعد لقبول نظام حكم إسلامي في بلاد المسلمين!… {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (سورة النساء)، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (سورة المائدة).

كيف ينصرُ رسولَ الله من لا يعظم شريعته ويقيمها ويدعوا الحكام لإقامتها؟ إنه “النفاق الخبيث”، أن يدعي علماء المسلمين غضبهم على رسوم مسيئة للرسول، لكن يصمتون صمت الأموات للإساءات الأعظم للرسول بعدم إقامة المسلمين أنفسهم لشريعته {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (سورة آل عمران).



 

جميع الآراء الواردة بهذا المقال تعبر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

Print Friendly, PDF & Email
اظهر المزيد

د. هشام البواب

الدكتور هشام البواب، ناقد ومحلل سياسي واجتماعي مستقل . مقالاته تشمل موضوعات سياسية واجتماعية وفقهية وعلوم تجريبية :::::: بعض كتابات الدكتور هشام البواب في الرابط التالي: https://atanwir.com/منشورات-الدكتور-هشام-البواب ::::::: hicbou1@mailfence.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Enter Captcha Here : *

Reload Image

زر الذهاب إلى الأعلى