الإرهاب والكباب: الوجه غير الإنساني للسويد متمثلا في مكتب الرعاية الاجتماعية (الجزء الثاني)

يبدو أن فصل الآباء عن أطفالهم سيتحول لنوع جديد من العقوبات أشد بطشا من التعذيب الجسدي في المعتقلات
تطرقتُ في الجزء الأول الى تعنت النظام السويدي ومكابرته تجاه مظالم الأسر المتألمة المدَمَّرة نفسيا بسبب سحب الأطفال من الأبوين، وكيف تعاملت السويد مع الاحتجاجات السلمية الفردية والجماعية والإعلامية والتي قادها المسلمون، وإن شارك فيها كثير من غير المسلمين، بحيث حاولت (أي السويد) جاهدة وَسْمَها بالإرهاب والتشدد والفتنة الخ.
يبدو أن المسلمين على الخصوص من دون باقي الملل في العالم، لا يجوز لهم الاحتجاج والتمرد والنهوض ضد الظلم، وإلا وُسِموا فورا بالإرهاب!
العجب أن تمارس دولة السويد “الديمقراطية”، دولة الحريات، سياسات الترهيب تجاه كثير من النشطاء والآباء، فقد أبلغ مثلا بعض الأفراد عن سحب أبنائهم بعد ظهورهم في احتجاجات لمساندة الأسر المتضررة من سياسات مكتب الرعاية الاجتماعية. يبدو أن سببا جديدا أُضيف للائحة مبررات فصل الأطفال عن آبائهم، وهو احتجاج أحد الأبوين ضد أحد مؤسسات الدولة. يبدو أن هذا نوع جديد من العقوبات التي يُراد بها كسر إرادة الناس، عقوبة أشد بطشا ووحشية من التعذيب الجسدي الذي تمارسه الأنظمة الجبرية في سجون دويلات العالم الثالث.
يبدو أنه ليس فقط الأطفال من يتم سحبهم من أسرهم، بل كذلك أهم الحقوق الطبيعية للإنسان: حق الاحتجاج وإبداء السخط عن الظلم والمطالبة بإزالته، الحق الذي من واجب الدول حمايته. الدول التي لا يحس فيها الإنسان بالأمان حين يعبر عن سخطه ويطالب بحقه، هي دول جائرة ظالمة جبرية متسلطة. وقد عرضت في الجزء الأول أمثلة من الإسلام، الذي تعاديه الديمقراطيات الغربية، والذي لا تقيمه (أي الإسلام) أي دولة في العالم اليوم، كيف يتعامل بجدية مع مظالم الناس وشكواهم، وكيف فرض (أي الإسلام) على الحاكم التحقيق في كل شكوى، سواء صدرت من فرد أو جماعة، وسواء كانت شكوى في أمر صغير أو كبير، وألزمه برد الحقوق لأصحابها. محاسبة المسؤولين والمؤسسات الحكومية، وعلى رأسهم رئيس الدولة، ومساندة الضعيف والمظلوم، واسترداد حقه، من ركائز نظام الحكم في الإسلام، لذلك لم يكن من باب الصدفة أن يركز أبو بكر الصديق على هذه الأمور في أول خطبة له لما تولى رئاسة الدولة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: “أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي؛ وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي؛ الصّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ” (سيرة ابن هشام).
غريزة التراحم التي أودعها الله في الأسرة هي الضامن لوجود النوع البشري واستمراريته
الأسرة الصغيرة، والتي أقصد بها الأبوين والأبناء، من بين أكبر نِعَم الله على الانسان، إذ هي ’عادة’ الحضن الدافئ الآمن الطبيعي الغريزي لكل إنسان، وهي نواة بناء الأسرة الكبيرة (أعمام وعمات أخوال وخالات وأجداد وأحفاد، الخ) والمجتمعات البشرية وإعمار الأرض، بدون الزواج وإنجاب الأبناء ما كانت الأرض لتُعَمَّر وما كان الجنس البشري ليستمر في الوجود.
ولأهمية الأسرة كنواة لوجود البشرية، جعل الله بين أفرادها رابطة غريزية خاصة تضمن وجودها وبقائها واستمراريتها، وهي رابطة الحب والتراحم. فهذه الرابطة الوجدانية الغريزية الطبيعية، هي التي تضمن (إذا استثنينا الحالات الشاذة) بطريقة عفوية تلقائية خوف أفراد الأسرة على بعضهم البعض، ورعاية بعضهم لبعض، واهتمام بعضهم ببعض، وحماية بعضهم لبعض. رابطةٌ وجدانية أوجدها الله في الإنسان تجاه أبنائه تنحصر في تحريك مشاعر الحب والعطف والرحمة تجاه الأطفال والخوف عليهم، والاحساس الطبيعي بالمسؤولية تجاههم والدفاع عنهم، والتضحية بل والموت من أجلهم، رابطة وجدانية لا تتحرك فيها غرائز الشهوة (إذا استثنينا حالات شاذة).
حب الأبوين الغريزي لأطفالهما، لا يمكن لأي إنسان آخر في الدنيا أن يقوم مقامه، لا يمكنه أن يتصنَّعه، هذا التراحم ليس مهارة مهنية يمكن لإنسان أن يدرسها ويتعلمها، ومن ثم يقوم مقام الوالدين تجاه الأطفال. هذه الرابطة الوجدانية تجاه الأطفال لا يمكن خلقها لدى موظفين في إدارة الرعاية الاجتماعية ليقوموا مقام الآباء، لا أبدا!التراحم بين الآباء والأطفال آية ونعمة لا يعلم سرها إلا الله، يضعها سبحانه في البشر، وليست وظيفة أو مهنة أو مهمة أو مهارة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} (سورة الروم)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنَّ لِلَّهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ منها رَحْمَةً وَاحِدَةً بيْنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ علَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَومَ القِيَامَةِ” (صحيح مسلم)، الهَوَامّ = الحشرات.
فالأسرة الصغيرة (الأبوين وأبنائهما) هي نواة وجود البشر والمجتمعات على الأرض. والضامن لبقاء تلك النواة واستمراريتها وسلامتها، هو غريزة التراحم التي وضعها الله سبحانه في الآباء، ومن ثم فالحق الطبيعي هو أن يعيش الأبناء مع والديهم، الآباء هم الأولى بتربية أبنائهم. ومن ثم، وبسبب غريزة التراحم التي أودعها الله بين الآباء والأبناء، يتسبب فصلهم عن بعضهم في ضرر نفسي ووجداني خطير، يخلق ألما وحزنا وكآبة وخللا نفسيا لدى الآباء والأطفال على السواء، وإن كان الضرر لدى الأطفال قد يكون أكبر، ويحدث على المدى الطويل ضررا بالمجتمع ككل، إذا كثرت حالات تقطيع الأرحام. لذاك كان تقطيع الأرحام من الجرائم العظام، تُحدث فسادا كبيرا في الأرض، لعن الله من يقوم بذلك، ووصفهم بأنهم عديمي البصيرة والعقل {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (سورة محمد).
عيش الأبناء مع آبائهم حق طبيعي متين لا يجوز تجازوه إلا في حالات شاذة مع مراعاة البدائل الأقل ضررا
هذا الرابط الوجداني الغريزي للآباء تجاه الأطفال يجب مراعاته في أي قرارات وسياسات للدولة. هذا الرابط الوجداني الغريزي الذي يضمن وجود الأسرة كنواة رئيسية لبقاء النوع البشري، يترتب عنه حق قوي طبيعي لا يجوز لأحد بما فيهم الدولة اغتصابه، فلا يجوز فجع الوالدين بأبنائهم ولا الأبناء بوالديهم، ومن ثم لا يجوز الفصل الدائم لأحد الأبوين عن الأطفال إلا في حالات شاذة. وحتى ساعتها لا يجوز حرمان الأب أو الأم من رؤية الأبناء باستمرار والجلوس إليهم، ولا يُنتزع الأطفال من عشهم (بيتهم)، ولكن يؤمر “الطرف الجاني”، الأب أو الأم بمغادرة البيت، الى غير ذلك من الحلول الاضطرارية التي يجب نقاش أنجعها وأرحمها وأقلها ضررا على الأطفال والآباء.
لأهمية الأرحام، أخد الإسلام الرابطة بين الأبوين والأبناء في الاعتبار في تشريعاته، فيتم مراعاتها لدى الانسان والحيوان، لدى العبد والحر، وحتى لدى من ارتكب جرائم. أذكر على سبيل المثال لا الحصر، قصة الغامدية التي زنت وأتت الرسول. تقول الرواية: جَاءَتِ الغَامِدِيَّةُ، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي قدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، فرَدَّهَا، فَلَمَّا كانَ الغَدُ، قالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، لِمَ تَرُدُّنِي؟ لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كما رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَاللَّهِ إنِّي لَحُبْلَى، قالَ الرسول: “اذْهَبِي حتَّى تَلِدِي”. فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بالصَّبِيِّ في خِرْقَةٍ، قالَتْ: هذا قدْ وَلَدْتُهُ، فقال الرسولَ: “اذْهَبِي فأرْضِعِيهِ حتَّى تَفْطِمِيهِ”، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بالصَّبِيِّ في يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقالَتْ: هذا يا نَبِيَّ اللهِ قدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الرسول الصَّبِيَّ إلى رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بهَا فَحُفِرَ لَهَا إلى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا (صحيح مسلم). فكون المرأة ارتكبت جريمة الزنا وهي محصنة، لم يُستعمل مسوغا لفصل ابنها عنها، ولم يُقم عليها الحد إلا لما انتهى الطفل من فترة الرضاعة.
ويروى عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِه، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً (نوع من الطيور) مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تُفَرِّشُ (أي ترفرف بجناحيها وتُرْخِيَ جَنَاحَيْهِا وَتدْنُوَ مِنَ الْأَرْضِ)، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا، رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا” (سنن أبي داود).
وحتى في الحروب، لما كان السبي متعارف عليه بين الأمم المتحاربة، حرَّم الإسلام تفريق الأب عن ولده اللذان تم سبيهما في أرض المعركة، أو الأم التي تم سبيها مع ولدها في أرض المعركة. وقد رُوي عن الرسول: “مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة” (رواه الترمذي وقال حديث حسن، وحسنه الأرناؤوط بمجموع طرقه وشواهده).
وكذلك لا يجوز في الإسلام تفرقة الأم من الحيوانات عن رضيعها، فيباعان سوية مثلا، الخ.
ومن ثم مشاهد فصل الأبناء عن آبائهم بالقوة في دول الغرب، كما شاهدنا في عدة حالات في السويد مثلا، لهي في الغالب أكبر ضررا على الأطفال والآباء من المبررات التي يسوغها مكتب الرعاية الاجتماعية لفصل الأبناء عن الوالدين. فصل أحد الأبوين أو كلاهما عن الأبناء لا يجوز إلا في الحالات الشاذة التي لا يصبح فيها أحد الأبوين أو كلاهما مؤهلين فعلا (وليس تخمينا وظنا وتأويلا) لرعاية الأبناء، كتكرار الضرب المبرح وليس الضرب العارض البسيط غير المبرح (الذي إن كان غير جائز في بعض الدول، فعلاجه ليس بفصل الأبناء عن آبائهم، وإنما بتوعية الآباء أولا، ثم معاقبتهم هم عند التكرار، دون فصلهم عن أبنائهم). وحتى في الحالات الشاذة، ولكيلا يُفصل الأبناء عن رحمهم بالكلية، فالواجب – إن كان الأم والأب كلاهما غير مؤهلين لرعاية أبنائهم – أن تنتقل رعايتهم للأقرب فالأقرب: العم، الجد، الخال، الأخ الأكبر، الخ، حتى لو استدعى الأمر – إذا لم يكن أهل في البلد الذي يقيم فيه الأطفال – نقلهم الى بلد آخر فيه أقاربهم وأظهروا استعدادهم لرعاية الأبناء. وعند تعذر إيجاد راع من الأسرة، فيُبحث لهم ساعتها عن أسرة من أصدقاء الوالدين أو الأقرب إليهم عقائديا، وألا يفرق الأبناء، وأن يُسمح لأبويهم بزيارتهم باستمرار، الخ. وهناك العديد من الحلول الأقل ضررا على الأطفال والآباء على السواء، والتي يجب البحث عنها ونقاشها، وإشراك المتضررين فيها، والأخذ بعين الاعتبار ديانة كل أسرة وعاداتها، الخ.
يتبع في الجزء الثالث ….