سياسة

الدروس المستفادة من الحرب الروسية الأوكرانية: لا قيمة للمسلمين دون دولة تحمل عقيدتهم وتحفظ كرامتهم

لما اجتاح صدام حسين الكويت سنة 1411هـ (1990م)، لم يتردد الغرب في دخول حرب مباشرة ضد العراق، وفَرْضِ حظر على أجوائه، انتهاءً بغزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين. ولما تحركت عصابات معمر القذافي بالقوة ضد المتظاهرين في ليبيا، لم يتردد الغرب في استغلال الوضع وإعلان حرب مسلحة ضد ليبيا، وفرض حظر جوي، انتهى بإسقاط نظام القذافي. ونفس الشيء ينطبق على عدة دويلات ما يُسمى بالعالم الثالث (وعلى رأسه العالم الإسلامي)، يتدَخَّل فيها الغرب عسكريا، يستبيح أرضها وجوها وخيراتها وشعبها متى شاء وكيفما شاء.  

لكن لما بدأت روسيا الحرب ضد أوكرانيا في 22 رجب 1443هـ (24 فبراير 2022م)، تقصف مدنها بما فيها العاصمة كييف، وتجتاح أراضيها، سارعت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وحلف الشمال الأطلسي (الحلف العسكري الغربي) للإعلان بأنهم لن يتدخلوا عسكريا في أوكرانيا ولن يخوضوا حربا مسلحة ضد روسيا، ولن يقيموا مناطق حظر للطيران في أوكرانيا لحماية الأوكرانيين من القصف الروسي، واكتفى الغرب بعقوبات اقتصادية على روسيا، وباستعداده لاستقبال ملايين اللاجئين الأوكرانيين.

لماذا يتجرأ الغرب على دويلات كالتي في العالم الإسلامي ويظهر عضلاته على شعوبها، لكن في المقابل لا يستطيع خوض حرب ضد روسيا؟ الجواب بسيط جدا: لأن روسيا ليست العراق أو ليبيا أو أحد دويلات سايكس بيكو. دول الغرب تعرف أنها ستدفع الثمن غاليا إن أقدمت على حرب مسلحة ضد روسيا. العالم لا يقيم اعتبارا إلا للقوي، يقول المثل «من أَمِنَ العقوبة أساء الأدب».

فالحظر الجوي الذي ياما أرعب المسلمين في البلدان الإسلامية وشل حركتهم، وقتل أبنائهم وهدم مساكنهم وأحرق مرافقهم العامة، واعتبره المسلمون قدَرًا إلهيا قاهرا لا حيلة ضده، تبخر في الحرب الروسية الأوكرانية، وتبين أن الحظر الجوي لا يمكن فرضه إلى على الضعفاء الذين لا يملكون التقنيات والمعدات والقوة اللازمة.

فعلى المسلمين أن يدركوا أنَّ العالم لا يعترف إلا بالدول القوية، لا يعمل حسابا إلا للقوي، أما الدول الضعيفة فمستباح أراضيها وشعوبها وأعراضها وخيراتها.

فتصريحات الإعلاميين والسياسيين الغربيين إبان موجات النزوح الجماعي من أوكرانيا على إثر القصف الروسي، والتي (أي التصريحات) تقارِن بين المسلمين وبلدانهم التي لا غضاضة في استباحتها وبين أوكرانيا وشعبها الأشقر الذين يجب أن تُحفظ كرامتهم، فهي وإن أساءت المسلمين وتُعتبر عنصرية مقيتة وازدواجية في المعايير لدى الغرب، وتُعَرِّي عن أكاذيبه ومزاعمه بأنه يحمل حضارة إنسانية تعتبر كل بني البشر إخوة متساويين في الحقوق الإنسانية ولهم الحق في حياة كريمة آمنة بغض النظر عن لونهم ودينهم وأصلهم، إلا أنها تُعَبِّر (أي تلك التصريحات) عن واقع مُعاش وحقيقة ثابتة منذ نشأة الشعوب والدول على وجه الأرض. فالإنسان لا قيمة له إن لم تكن له دولة مبدئية قوية تجسد عقيدته عمليا وتحميه وتعمل على نشر مبدئها في العالم. الأمة التي ليست لها قوة رادعة أو كانت لها قوة لكنها تقوقعت على نفسها ولم تحاول حمل مبدئها للعالم، يتم غزوها لا محالة (فكريا ثم عسكريا). سُنَّة التدافع بين الناس في الأرض تقتضي إما ان تغزوا أو تُغزى. لا مكان في العالم للشعوب المائعة التي لا تتمسك بعقيدتها نقية صافية، شعوب مذبذبة بين قوى العالم وأفكاره، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لا الى هذه العقيدة ولا الى تلك. لا مكان في العالم لأمم لا تتوافر على قوة عسكرية واقتصادية ذاتية. انظروا لوحدة الغرب وحسمه في موقفه المبدئي من روسيا، رغم أنها لا تعاديهم عقائديا، وإنما صراعهم معها على النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي فحسب.

ما السبيل للخروج من حالة الاستضعاف؟

فالمسلمون عليهم أن يعوا أنهم في عصرنا الحالي الذي ليست لهم فيه دولة قوية تجمع شملهم وتحفظ كرامتهم وتحمي بيضتهم، هم فعلا لا قيمة لهم بين الأمم (ولا أتحدث عن قيمتهم عند الله، فالمسلم عزيز عند الله ما دام يعظم دينه وشريعته). وعليهم أن يدركوا أن الخروج من الذل والمهانة لن يتحقق باستجداء الغرب والتباكي عليه ومطالبته بإنصافهم والعدل فيهم، ولكن بالعمل الجاد والأخذ بالأسباب لإقامة دولة للمسلمين كالتي أقامها رسولهم صلى الله عليه وسلم، دولة مبدئية سيادية مستقلة تبني قوة ردع عسكرية واقتصادية ذاتية، تخدم المسلمين وتقضي حاجاتهم الأساسية فلا يضطرون للهجرة لدول الكفار، وتحرك الجيوش عندما تفكر أي دولة في العالم في استباحة بلاد المسلمين أو أعراضهم أو خيراتهم. دولة تجعل علاقاتها مع كل دول العالم مبنية على أساس الولاء والبراء: تُقاطِع كل دولة تعادي الإسلام والمسلمين، وتعلن الحرب على الدول التي تفكر في أعمال عسكرية ضد المسلمين، وتصالح الدول التي تهادن المسلمين ولا تحاربهم في دينهم.

إذا كنتم، أيها المسلمون، مستضعفين اليوم في العالم، تخافون أن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس، تخافون إظهار دينكم، مُشَرَّدون في المخيمات في العراء يقتلكم البرد والجوع والخوف، وإخوانكم في الدين لا يستطيعون الوصول إليكم ومساعدتكم أو إيوائكم لأن الغرب وعملائه المتحكمين في البلدان الإسلامية يمنعونكم من ذلك، فاعلموا أن رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن به كانوا مستضعفين في الأرض، يحارَبون في دينهم، يُضطهدون، يُعذبون، يهجرون، يُحاصرون، يُجَوَّعون، تُسلب أموالهم وبيوتهم، الخ.  …

إلا أن رسولكم صلى الله عليه وسلم، بوحي من الله وانسجاما مع سننه سبحانه في المجتمعات والدول، كان يدرك أن الخروج من حالة الاستضعاف والخوف، وردع المعتدين والجبابرة، وإقامة أحكام الله في الأرض، لا يتحقق إلا بإقامة دولة ذات شوكة، تستند لقوتها العسكرية والاقتصادية الذاتية، دولة عقائدية، ذات سلطان يحمي أهل الإسلام من أعداءه ويُمَكِّنهم من إقامة أحكامه في كل شؤون حياتهم دون أن يضطهدهم أحد أو يخوِّفهم أو يفتنهم في دينهم. يقول الله سبحانه {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (سورة الإسراء): يقول ابن كثير في تفسيره للآية [إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلِمَ أَلَّا طَاقَةَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَّا بِسُلْطَانٍ، فَسَأَلَ سُلْطَانًا نَصِيرًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَلِحُدُودِ اللَّهِ وَلِفَرَائِضِ اللَّهِ، وَلِإِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ السُّلْطَانَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ جَعَلَهُ بَيْنَ أَظْهُرِ عِبَادِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَغَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَأَكَلَ شَدِيدُهُمْ ضَعِيفَهُمْ. … لَا بُدَّ مَعَ الْحَقِّ مِنْ قَهْرٍ لِمَنْ عَادَاهُ وَنَاوَأَهُ] (ا.هـ).

فواقعنا الذي نعيشه يؤكد لنا أنه لا قيمة لإنسانٍ دون وجود دولة قوية ينتمي إليها، وأنه كلما كانت الدولة هزيلة أو كانت وظيفية، كلما كان حامل جنسيتها مُعَرَّضا للاضطهاد وللتحقير ولقوانين وإجراءات عشوائية تعسفية تُسَن ضده في كل أنحاء العالم وأولها دولته الهزيلة الوظيفية التي يحمل جنسيتها. ويرينا الواقع أن الدول القوية هي التي تفرض إرادتها على الشعوب والدول الأخرى، حتى أنها تحدد لهم كيف يفكرون، وما هي القضايا التي يجوز لهم الصراع من أجلها، وما نوع نظام الحكم الذي يجوز لهم اختياره، بل وتحدد لهم الأفراد الذين يجوز لهم انتخابهم، الخ. 

ومن ثم، وللخروج من حالة الاستضعاف وتكالب الأمم على المسلمين، واجب عليهم (أي المسلمون) أن يكونوا عمليين، يُحَوِّلوا المحن والآلام إلى طاقات إيجابية فعالة، تبدأ بدراسة سُنَّة الرسول ليتبعوا سبيله في كيفية العمل لإقامة دولة ترد كرامتهم بين أمم العالم وتأوي كل مستضعف في الأرض وعلى رأسهم المسلمين، تحميهم وتخوض الحرب من أجلهم. على المسلمين أن يتعلموا من سنة نبيهم كيف قاد الدولة الفتية في المدينة وعمل على تقويتها وحمايتها وتوسيع نفوذها.

على المسلمين أن يدركوا أن إقامة دولة للإسلام كالتي أقامها الرسول، لن يتحقق أبدا عن طريق إرضاء الغرب وتقديم التنازلات تلو الأخرى له واستجدائه ليعطف عليهم ويمنحهم الحكم في أحد البلدان الإسلامية، حكما يقر العلمانية، فهذا لن يزيدهم إلا مزيدا من الضعف والصغار والذل، وإن منحهم الغرب الحكم في أحد البلدان الإسلامية، فلن يكونوا إلا عملاء جدد يُوضَعُون مكان العملاء الحاليين.

كما أن إقامة دولة للإسلام لن يكون عن طريق التدرج الذي ما أنزل الله به من سلطان، ولا عن طريق الأنظمة الوظيفية في العالم الإسلامي (كلها بدون استثناء) التي لا تقيم شريعة الإسلام كاملة وتخشى الغرب وتنتمي لتحالفاته العسكرية والأمنية.

ولكن الذي سيقيم دولة مستقلة مبدئية، هم أصحاب سلطان وقوة يؤمنون بالإسلام كنظام حكم كامل لا يقبل الخضوع لأي قوة في الدنيا. لن يقيم دولة للإسلام إلا صاحب سلطان لا يستند في قوته وسلطانه إلى أي دولة في العالم ولا يخشاها، صاحب سلطان يحيط الإسلام من كل جوانبه (كما قال صلى الله عليه وسلم لبني شيبان)، يؤمن بوجوب نصرة الإسلام وجعل بلاده نواة لإقامة دار هجرة كالتي أقامها الرسول في المدينة.

ولمن أراد تفاصيل عن كيفية إقامة الرسول لدولة الإسلام والشروط التي اشترطها على من طلب منهم النصرة، وكيف أنه صلى الله عليه وسلم لم يقبل أبدا نصرة مشروطة، ولا مساومةً على الدين، ولا سلطانا ناقصا، أحيله لبحث من خمسة أجزاء، نشرتُه تحت عنوان «يحتفلون بالهِجرة ويعْرِضُون عن سُنَّتها».

اقرأ أيضا

يحتفلون بالهجرة ويعْرِضُون عن سُنَّتها ج(1)

يحتفلون بالهجرة ويُعْرِضُون عن سُنَّتها ج(2)

يحتفلون بالهِجرة ويعْرِضُون عن سُنَّتها ج(2).. لمن يتحاكم المسلمون؟

يحتفلون بالهجرة ويعْرِضُون عن سُنَّتها ج(3): حين يصبح كرسي الحكم هو الغاية

يحتفلون بالهجرة ويعْرِضُون عن سُنَّتها ج(3): الأنظمة لا تسقط بالمظاهرات



 

جميع الآراء الواردة بهذا المقال تعبر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

Print Friendly, PDF & Email
اظهر المزيد

د. هشام البواب

الدكتور هشام البواب، ناقد ومحلل سياسي واجتماعي مستقل . مقالاته تشمل موضوعات سياسية واجتماعية وفقهية وعلوم تجريبية :::::: بعض كتابات الدكتور هشام البواب في الرابط التالي: https://atanwir.com/منشورات-الدكتور-هشام-البواب ::::::: hicbou1@mailfence.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Enter Captcha Here : *

Reload Image

زر الذهاب إلى الأعلى