سياسة

قناة الجزيرة: ما هي معاييرها في الترحم ومنح لقب الشهادة؟

الكل يتذكر الضجة التي تُثار كلما توفي كافر أو كافرة، وكيف تخرج أصوات ومنصات، لأفراد ولمؤسسات إعلامية مرئية ومقروءة، في تحد صارخ لله والرسول والمسلمين عامة، بالترحم على من حرَّم الإسلام الترحم عليه {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (سورة التوبة)، ونعْتِه بـ “الشهيد”، وعلى رأس هؤلاء قناة الجزيرة التي لعبت منذ تأسيسها سنة 1417هـ (1996م) دورا محوريا وبشكل مؤثر وفعال وأسلوب ناعم، في ترويض المسلمين على العلمانية “الوسطية” (التي تسمح ببعض مظاهر الإسلام وعبادته، وتفتح له زاوية للتعبير عن الرأي، دون أن تحكم الشريعة)، وإعادة صياغة تفكيرهم ومواقفهم لتصبح مرجعيتها العلمانية وليس الإسلام، ولتتمحور ضمن الدائرة التي يسمح بها ما يسمى “النظام الدولي” الذي فرضته أقلية على العالم.

فمثلا كان للجزيرة السبق في إدخال إسرائيل الى بيوت المسلمين بحجة “الرأي والرأي الآخر”، وقد أقر هذا الكلام مدير مكتب الجزيرة في إسرائيل – وليد العمري – نفسه، في مقال نشره سنة 1438هـ (2017م) في جريدة “هآرتس” الإسرائيلية تحت عنوان: «إغلاق الجزيرة هو قتل لحامل الرسالة»، حيث كان مما ذكر:

[حتى بدأت قناة الجزيرة بالبث في العام 1996، لم يرى معظم العرب منذ ولادتهم إسرائيلي واحد على شاشة تلفاز، والإعلام العربي كان ذو دعاية تقليدية – سردية – تحكمها نظم استبدادية للسيطرة الكاملة على الرأي العام. وعندما غيرت الجزيرة هذه الحالة، استطاعت أن تأتي بآراء أخرى ومتنوعة للعرب والإسرائيليين والأمريكيين وجميع المجتمع الدولي. وقدمت الجزيرة بطريقة عرضت فيها الأخبار لملايين المتابعين في الشرق الأوسط، شكلت هزة أرضية. ومن المفارقات أن الأنظمة العربية نظرت لها على أنها (أي الجزيرة) أداة بيد “إسرائيل” بسبب استضافة إسرائيليين واسماع وجهة نظرهم. …. ونحن لا نخشى أن نعرض وجهتي النظر في كل المواضيع حتى لو كانت آراء فيها تحدي ومقلقة لجهات وأحزاب. …. بسبب فتحنا المجال أمام اشخاص ومواضيع مختلفة ومثيرة للجدل، واجهت صحافتنا المستقلة نقدا كبيرا، ولكننا قمنا بما قمنا به لأننا نؤمن بضرورة عرض كافة الآراء] (ا.هـ).

اقرأ أيضا: «الجزيرة تسارع لإنقاذ فرنسا من حملة المقاطعة وتبييض وجه ماكرون ومنحه منصة لجلد المسلمين»

وكان للجزيرة السبق في تغيير معايير المسلمين في الترحم، لتشمل ليس عوام النصارى فحسب، بل أيضا زعيمهم الروحي، حيث بثت على قناتها سنة 1426هـ (2005م) لمئات ملايين المسلمين ترحمًا على أسقف روما ورأس الكنيسة النصرانية، يوحنا بولس الثاني، وذلك على لسان ليس بأقل من رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين آنذاك، الشيخ يوسف القرضاوي.

ولما قُتِلت شيرين أبو عاقلة – وهي نصرانية –، كانت الجزيرة سباقة لنعتها بـ “الشهيدة” والترحم عليها، ومن ثم كان لها تأثير على مواقف ورأي ملايين المسلمين وكثير من المنصات الإعلامية العربية، الذين قلدوها فيما ذهبت إليه. فالجزيرة وأصحاب القرار فيها يتحملون وزرا كبيرا في كثير من الانحرافات العقدية للمسلمين، وسيحاسبون عليها عند الله. فليس هناك ذنب مرفوع عنه الحساب لأن مرتكبه إعلامي أو صحفي، ليس هناك حرام يحل للإعلامي بحجة أن “المهنية الإعلامية” تستوجب ذلك، فكل ما يقوله أي إعلامي أو يكتبه، يُسجل عليه، وسيحاسب عليه يوم القيامة لا محالة {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (سورة ق)، {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (سورة غافر). 

ولما قُتِل قبل أيام أيمن الظواهري، وبحكمي محلل سياسي وناقد، تصفحت الأخبار التي نشرتها الجزيرة عن الحدث على مدى الأيام الأخيرة، لأنظر هل ستنعته هو أيضا بالشهيد كما فعلت مع أبو عاقلة، ما دام مات مقتولا، وهل ستترحم عليه، خصوصا أننا نتحدث هنا عن مسلم وليس نصراني، فلاحظت أن الجزيرة لم تنعته بما نعتت به شيرين أبو عاقلة، ولا نعته كما نعتها.

للجزيرة الحق ألا تترحم على الظواهري أو تنعته بالشهادة، فذلك ليس بواجب عليها ولا على أي مسلم، كما أن الترحم عليه ووصفه بالشهيد ليس بالضرورة تعبيرا عن موافقته في كل ما فعل، ولا إعفاءه من واجب المحاسبة الشرعية. لكن حين تتحدى الجزيرة الله ورسوله، وتترحم على غير المسلمين وتنعتهم بالشهادة، رغم أن هذا محرم تحريما قاطعا في الإسلام، وتبث ذلك الانحراف العقدي بين عامة المسلمين، وَجَب ساعتها مساءلة قناة الجزيرة عن معاييرها في الترحم ومنح لقب الشهادة!

أليست الجزيرة مؤسسة يملكها مسلمون وتبث من بلد مسلم ومن ثم عليها الالتزام بمعايير الإسلام في سياسات التحرير، وفي انتقاء ضيوفها، الخ؟ أليس من واجب مؤسسة تابعة لمسلمين أن يكون لديها نظام وقانون داخلي يضع معايير للنشر منبثقة من الإسلام وليس من قوانين الغرب؟

الجزيرة، كغالبية المنصات الإعلامية في العالم الإسلامي للأسف، ليس مقياسها الإسلام، إذ تتبنى قوانين الغرب التي وضعها تبعا لعقيدته ودساتيره، وتَتْبَع المزاج العام الذي يفرضه النظام الدولي ويسمح به.

فرضى الغرب يتحقق بإظهار الرحمة واللطف والوداعة مع الكفر والكفار، والفسق والفساق، لذلك يسارعون مثلا للترحم على كفار إن ماتوا، ونعتهم بالشهداء حينا، الخ، ويظهرون غلظة تجاه المسلمين الملتزمين بالإسلام.

أين “لطافة” قناة الجزيرة وأمثالها ووداعتهم مع مسلم، حتى لو كان إرهابيا أو مجرما؟ ألم تشمل رحمة الله كل شيء كما يزعمون حين يترحمون على الكفار؟ حتى أسيادكم في الغرب، حين يُحكم عندهم مجرم سفاح بالإعدام، يختم القاضي حكمه بالدعاء للسفاح بعبارة “اللهم ارحم روحه”!



 

جميع الآراء الواردة بهذا المقال تعبر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

Print Friendly, PDF & Email
اظهر المزيد

د. هشام البواب

الدكتور هشام البواب، ناقد ومحلل سياسي واجتماعي مستقل . مقالاته تشمل موضوعات سياسية واجتماعية وفقهية وعلوم تجريبية :::::: بعض كتابات الدكتور هشام البواب في الرابط التالي: https://atanwir.com/منشورات-الدكتور-هشام-البواب ::::::: hicbou1@mailfence.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى