علوم شرعية وفقهية

الجدل حول الحاكم النيسابوري: لا ترفعوا من شأن الرعاع ولا تحابوهم وتجنبوا مجالسهم

روى عبد الله بن عباس أن عبد الرحمن بن عَوْف، رضي الله عنهما، أخبره أنه كان عند أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، حيث أَتَاه رجل فقال له: “يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ لَكَ فِي فُلَانٍ يَقُولُ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا، فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ”، فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ: “إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ”، فاستوقفه عَبْدُ الرَّحْمَنِ وقال: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَفْعَلْ! فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِي النَّاسِ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وَأَنْ لَا يَعُوهَا وَأَنْ لَا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ، فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ، فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا، فَيَعِي أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا» (صحيح البخاري).

استجاب عمر لنصيحة عبد الرحمن بن عَوْف، وأجَّل رده على مزاعم من أراد أن يغصب المسلمين أمرهم ويفرض عليهم خليفة حتى رجع إلى المدينة. وخطبة عمر تلك لما رجع الى المدينة فيها عدة أحكام شرعية، منها أن المسلمين عامة هم وحدهم الذين لهم حق اختيار الخليفة عن رضى، ومنها أن حد الزاني الثيب الرجم، الخ.

الرعاع الذين حذر منهم عبد الرحمن بن عوف أميرَ المؤمنين عمر بن الخطاب، هم من صِنْف الذين حاصروا بيت أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وقال عنهم: “إِنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ رَعَاعٌ غَثَرَةٌ” (النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير)، (غَثَرَةٌ أَيْ جُهَّالٌ)، هم الرعاع الذين استغلوا الفتنة الاولى أو الصغرى في عهد الخليفة عثمان، ليتطايروا الأقاويل والتهم الكاذبة عليه ويقتلوه، فيدشنوا بذلك بداية عهد الفتن والاقتتال بين المسلمين.

والرعاع هم الذين أجَّجوا الفتنة الكبرى في عهد الخليفة علي رضي الله عنه، وقتلوه. وقد حذر منهم علي رضي الله عنه حسب حديث منسوب إليه، قال فيه: “النَاسُ ثَلاثَةٌ: عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رِعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ غَاوٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ” (تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر). 

ورَدَ في معاجم اللغة العربية أن الرِعاع – مفرد رِعاعة – (وجاز ضم الراء أو فتحها)، هم سِفْلة الناس وغوغاؤهم وسُقَّاطُهم. 

الشاهد هنا أن الرعاع كانوا كُثُر حتى في صدر الإسلام، في خير قرن أمة الإسلام، فما ظنك بحال الرعاع وعددهم وحالهم ودرجة جهلهم ووقاحتهم وجرأتهم بعد مرور أكثر من 1400 سنة على وفاة الرسول؟ حالهم في عصرنا الحالي الذي وصل فيه المسلمون الى الحضيض على كل المستويات، وغاب السلطان الذي يحمي الإسلام والمسلمين، عصر فتحت فيه وسائل التواصل على شابكة الحواسيب مساحات غير مسبوقة للرعاع لكسب شهرة واسعة وجلب أتباع كثر ونشر شبهاتهم على نطاق جغرافي واسع، وفي وقت وجيز.

كثرة أعداد متابعي رعاعةٍ في وسائل التواصل على شابكة الحواسيب، ليس بالضرورة لعلمه، ولكن لأن الجاهلين يمثلون نسبة كبيرة من الناس، فيجدون ضالتهم في جاهل أو رويبضة، فقد وصف الله حال أكثر الناس بأنهم لا يعلمون {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (سورة يوسف)، {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (سورة يونس)، {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (سورة الانعام)، (يَخْرُصُونَ أي يكذبون)، فهؤلاء الذين وصفهم الله بأنهم لا يعلمون، هم الذين يمثلون النسبة الأكبر من جمهور الرعاع، جمهور يحب التفاهة فينجر للتافهين، يحب الغوغاء فيبحث عن الغوغائيين!

نصيحة عبد الرحمن بن عوف لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وفطنة عمر لما حُذِّر منه وتراجعه عن نقاش موضوع شائك في جمعٍ من الرعاع، يجب أن يتخذها العلماء وطلبة العلم قاعدة أساسية في التعامل مع كل رِعاعة، فلا يجادلوهم ولا يناظروهم ولا يرفعوا من شأنهم ولا يحضروا مجالسهم ولا يزكوهم. وإن أراد عالم أو طالب علم تفنيد شبهات رِعاعة لكيلا يُفتَن بها عوام الناس، فليتطرق للشبهات، دون مخاطبة الرِعاعة مباشرة ولا حتى ذكر اسمه، ولا الدخول في أي حوار مباشر معه، ناهيك عن الرفع من شأنه بحضور مجالسه والتلطف معه بكلمات “الأخ” و”الحبيب” و”الأستاذ” الخ. وعلى العالم وطالب العلم أن يتخذ أسلوب الهجوم في تفنيد شبهات الرِعاعة، وليس الدفاع.

الرعاع يحبون إثارة الشغب وإشعال الفتن، هدفهم ليس الوصول للحق، ولا يتجردون له، الضجة التي تُثار حولهم هي غايتهم في حد ذاتها.

الرعاع لا يكادوا يفقهون قولا، يحملون كل حديث على غير موضعه ويحشونه بكثير من النقولات المبتورة ليؤولوه حسب ما يوافق أهوائهم ويخدم غرضهم.

شخص يزعم أنه “صحفي” تطاير عبارات وأحاديث هنا وهناك من كتب المحدثين ليؤولها حسب تصوراته الشخصية

ما تقدم من قول دفعني إليه استغرابي للاهتمام المبالغ فيه الذي أولاه مؤخرا طلبة العلم ومشايخ وعلماء لشخص جاهل بأبسط أبجديات الإسلام ومحاباتهم له، شخص يزعم أنه “صحفي” رفع من شأنه أحد طلبة العلم بالموافقة على مناظرته. فهل يناظر عالمٌ جاهلا، أم يجلس الجاهل تلميذا عند العالم ليتعلم منه!

المشايخ وطلبة العلم الذين انقلب عليهم ذاك الجهول وأساء الأدب معهم، وحط من شأنهم، واتهمهم في عقولهم ودينهم وبأنهم يخدمون المشروع الإيراني ضد أهل السنة، ومتواطئين مع “الدولة العميقة” ضده، هم نفسهم الذين رفعوا من شأنه من قبل، بحضورهم مجالسه ومحاورته وتزكيته ومشاركة الناس منشوراته، فاستغلهم ليصل عن طريقهم لجمهور أوسع من المسلمين وكسب ثقتهم، لينقلب عليهم ويبدأ في بث سمومه، تماما كما فعل الكثير غيره من قبل. فليس كل من يعادي من تعادي صديق لك، والتزكية لا تعطى على ذلك الأساس، وإنما يُنظر لمبدأ الشخص ودينه ومدى ترسخ المفاهيم الإسلامية الصحيحة فيه، وهل تتوافق أفعاله ومواقفه مع المبدأ.

أستغرب كيف لا يفطن طالبُ العلم والعالم مبكرا لحقيقة الرجال ومعدنهم؟ أهل العلم أولى أن تكون لديهم فراسة وسرعة بديهة، فينزلوا الرجال المنزلة اللائقة بهم، عالية أو منخفضة، ولا يُخدعوا فيهم. يقول ابن قيِّم الجوزية: [والفرق بين سَلَامة القلب والـبَلَه والتَّغَفُّل: أنَّ سَلَامة القلب تكون من عدم إرادة الشرِّ بعد معرفته، فيَسْلَم قلبه من إرادته وقصده، لا من معرفته والعلم به. وهذا بخلاف الـبَلَه والغَفْلة، فإنَّها جهل وقلَّة معرفة، وهذا لا يُحْمد؛ إذ هو نقص، وإنَّما يَحْمد النَّاس من هو كذلك؛ لسَلَامتهم منه. والكمال أن يكون القلب عارفًا بتفاصيل الشَّرِّ، سليمًا من إرادته، قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: “لست بِخِبٍّ ولا يخدعني الخِبُّ”، وكان عمر أعقل من أن يُخْدع، وأورع من أن يَخْدع] (كتاب الروح لابن قيم الجوزية).

هذا الذي يزعم أنه “صحفي” (وأنا شخصيا لم أعتبره قط صحفيا، لأنه يتعامل مع الأخبار والأحداث السياسية بنفس الهوى الذي يتعامل به في مسائل الشرع، يفتقد لمقياس ومنهاج لتحليل الأخبار، يضع تصورا يراه هو في مخيلته ويرغب فيه، ثم يحلل الحدث ليوافق ما تصوره)، أقول هذا “الصحفي” ينطبق عليه وصف عبد الرحمن بن عَوْف حين قال لأمير المؤمنين عمر: “أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وَأَنْ لَا يَعُوهَا وَأَنْ لَا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا”، إذ تطاير ذلك “الصحفي” عبارات وأحاديث هنا وهناك من كتب المحدثين الذين جمعوا أحاديث الرسول وصنفوا رواته، ليؤولها حسب تصوراته هو الشخصية.

والأنكى من ذلك، سذاجة بعض طلبة العلم والمشايخ في الأسلوب الذي اتبعوه للرد عليه، ومخاطبتهم إياه على استحياء، ظانين أنه سيتقبل نصحهم وتصحيحيهم لمفاهيمه، مع أنه لم يسألهم أصلا عن رأيهم ولا استشارهم، فلو كان غرضه معرفة الحق، لراجع المشايخ الذين ياما استضافهم، وعرض عليهم أفكاره قبل نشرها بين الناس. لم يفهموا أن غرض ذاك “الصحفي” هي الغوغاء وليس الحق، ولم يعرفوا أن الرعاع والغوغائيين يجب اتخاذ أسلوب حازم معهم وبلهجة شديدة، وعدم مناقشتهم، فقد [جَاءَ فِي زَمَنِ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – رَجُلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الْبَصْرَةِ، يُقَالُ لَهُ صَبِيغُ بْنُ شَرِيكٍ أَوِ ابْنُ عَسَلٍ التَّمِيمِيُّ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ النَّاسَ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، وَعَنْ أَشْيَاءَ. فَأَحْضَرَهُ أمير المؤمنين عُمَرُ بن الخطاب، وَضَرَبَهُ ضَرْبًا مُوجِعًا، وَكَرَّرَ ذَلِكَ أَيَّامًا، فَقَالَ الرجل: “حَسْبُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ ذَهَبَ مَا كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي”، ثُمَّ أَرْجَعَهُ عمر إِلَى الْبَصْرَةِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ مُخَالَطَتِهِ] (كتاب التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور). فإن كان من صلاحيات الخليفة عقاب الغوغائيين الفتَّانين، فواجب غيره من الناس أن يعاقبوهم بأساليب غير العنف الجسدي، كمخاطبتهم بأسلوب شديد اللهجة وهجرتهم وحث الناس ألا يخالطوهم.  

اقرأ أيضا: «تعقيب على رد الدكتور عطية عدلان على نظرية العثماني عن آيات القتال»



 

جميع الآراء الواردة بهذا المقال تعبر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

Print Friendly, PDF & Email
اظهر المزيد

د. هشام البواب

الدكتور هشام البواب، ناقد ومحلل سياسي واجتماعي مستقل . مقالاته تشمل موضوعات سياسية واجتماعية وفقهية وعلوم تجريبية :::::: بعض كتابات الدكتور هشام البواب في الرابط التالي: https://atanwir.com/منشورات-الدكتور-هشام-البواب ::::::: hicbou1@mailfence.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى