فيروس التاج والحبة السوداء: شبهات

منذ اندلاع وباء فيروس التاج-2019 والشبهات والإشاعات حوله لم تتوقف. وأعني بالشبهات الآراء التي لا تستند لأدلة علمية صحيحة (سواء لأدلة من العلوم الشرعية أو العلوم التجريبية)، أو أُسيئ فهم مناط ودلالات الأدلة العلمية. أما الإشاعات فهي التي لا تستند لأي أدلة على الإطلاق، ومنها نظريات المؤامرة.
ومن بين الشبهات، قول البعض بأن الحبة السوداء (وتُسمى أيضا حبة البركة والكمون الأسود) دواء لداء فيروسات التاج، واستندوا في ذلك، أولا الى حديث الرسول الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «إن في الحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامَ» (صحيح مسلم)، والسام هو الموت. وثانيا الى نتائج تجارب مختبرية استنتجوا منها – أي أصحاب الشبهات – أنها تشير الى قدرة الحبة السوداء على القضاء على فيروس التاج-2019.
فما صحة وجه الاستدلال بهذين المصدرين؟
هل حديث “الحَبَّة السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ” يفيد العام قطعًا؟
من خاصيات اللغة العربية، أنه يأتي فيها اللفظ العام كثيرا بمعنى الخاص والخاص بمعنى العام. فاللفظ قد يَرِدُ عامًّا ويُقصد منه فِعْلًا العموم، أي أنه يشمل الكل. وقد يَرِدُ عامًّا لكن لا يُقصد منه العموم، بل يشمل البعض فقط. ومن ثم، وباستقرائهم النصوصَ الشرعية (القرآن والسنة) وفهمهم لأسلوب الخطاب فيها وتمكنهم من اللغة العربية، أقَرَّ فقهاء المسلمين منذ القِدَم، أن النص العام في الآيات والأحاديث ينقسم الى ثلاث دلالات:
- لفظ عام المُراد منه العموم قطعا.
- لفظ عام المُراد منه المخصوص قطعا.
- اللفظ العام المخصوص.
لن أسترسل هنا في نقاش هذه الأصناف الثلاثة لمدلول اللفظ العام، فمن يهمه الأمر، يمكنه الرجوع لكتب أصول الفقه ليجد الشرح الموسع لها، والأدلة عليها، والأمثلة الكثيرة على كل صنف منها.
لكن الذي يهمنا هنا هو أي الأصناف الثلاثة يندرج تحتها لفظ العموم (كُلِّ دَاءٍ) في حديث الرسول «الحَبَّة السَّوْدَاء شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ»؟
في هذا قولان للعلماء: فريق قال بأن لفظ (شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ) يبقى على عمومه فيشمل كل داء. وفريق قال إنه لفظ عام أريد به الخصوص، فالمراد به بعض الأمراض وليس كلها.
من العلماء الذين قالوا بأن هذا اللفظ العام (شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ) أريد به الخاص، أي بعض الأمراض فحسب، أبو سليمان الخطَّابي، وأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. يقول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: [إِنَّ قَوْلَهُ “كُلِّ دَاءٍ” تَقْدِيرُهُ يَقْبَلُ الْعِلَاجَ بِهَا، فَإِنَّهَا تَنْفَعُ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْبَارِدَةِ، وَأَمَّا الْحَارَّةُ فَلَا. …… وَقَالَ الْخَطَّابِيّ: قَوْلُهُ “مِنْ كُلِّ دَاءٍ” هُوَ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي طَبْعِ شَيْءٍ مِنَ النَّبَاتِ مَا يَجْمَعُ جَمِيعَ الْأُمُورِ الَّتِي تُقَابِلُ الطَّبَائِعَ فِي مُعَالَجَةِ الْأَدْوَاءِ بِمُقَابِلِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهَا شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ يَحْدُثُ مِنَ الرُّطُوبَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: الْعَسَلُ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ أَقْرَبُ إِلَى أَنْ يَكُونَ دَوَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ مِنَ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ مِنَ الْأَمْرَاضِ مَا لَوْ شَرِبَ صَاحِبُهُ الْعَسَلَ لَتَأَذَّى بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْعَسَلِ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ، فَحَمْلُ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ النَّبِيُّ يَصِفُ الدَّوَاءَ بِحَسَبِ مَا يُشَاهِدُهُ مِنْ حَالِ الْمَرِيضِ، فَلَعَلَّ قَوْلَهُ “فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ” وَافَقَ مَرَضَ مَنْ مِزَاجُهُ بَارِدٌ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ أَيْ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ الَّذِي وَقَعَ الْقَوْلُ فِيهِ] (انتهى الاقتباس).
الصحيح هو قول العلماء بأن لفظ «الحَبَّة السَّوْدَاء شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» المقصود به شفاء لبعض الأمراض وليس كلها. ولعل من أكبر الأدلة على ذلك فعل الرسول نفسه، فهو صلى الله عليه وسلم لم يصف لكل مرض ولكل مريض الحبة السوداء كعلاج، ولو كان في الحبة السوداء علاجا لكل داء، لما وصف غيرها لكل سقيم. فلدينا العديد من الأحاديث النبوية التي يصف فيها الرسول أنواعا مختلفة من العلاج حسب نوع الداء (مع الإشارة الى أنه لم يصف صلى الله عليه وسلم علاجا لكل الأمراض، بل ولا لأكثرها، فهو لم يُرسل ليداوي الأمراض الجسدية، وإن دلَّه الله هنا وهناك على بعض المنافع في مجال الطب، فالله ترك للبشر فريضة البحث عن أدوية لكل الأمراض)، وأكتفي هنا بنقل ثلاثة أحاديث من صحيحي البخاري ومسلم. في الحديث الأول، يقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ، وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيُّ». وفي الحديث الثاني، يُروى أنَّ رجلاً أتى النبي، فقال: إنَّ أخي يشتكي بطنَه، فقال له صلى الله عليه وسلم: «اسْقِهِ عَسَلًا». والرواية الثالثة الصحيحة تقول: «أنه قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ (الجَوَى دَاءٌ يُصِيبُ الْجَوْفَ)، فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِقَاحٍ وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا» (اللقاح: ذوات اللبن من الإبل).
فلا شك أن الحبة السوداء فيها علاج لبعض الأمراض (وليس كلها)، للحديث الذي ورد عمن لا ينطق عن الهوى، لكن يجب على الإنسان أن يكتشف أي الأمراض تصلح ضدها الحبة السوداء، وما هي الكيفية التي تكون فيها الحبة السوداء فعالة ضد تلك الأنواع من الأمراض: مسحوقة مثلا، أو معصورة، أكلا أو شربا، أو عن طريق حقنة شرجية، أو كقطرات في الأنف، باردة أو ساخنة، لوحدها صافية أو مركبة مع مواد أخرى، وأن تُستخرج منها الجزئيات الفعالة ضد نوع أو أنواع معينة من الأمراض، الى غير ذلك مما يعرفه الخبراء بالطب وعلوم الأدوية منذ القِدم.
هل هناك تجارب مختبرية تفيد بأن الحبة السوداء تقضي على فيروس التاج-2019؟
مما استدل به البعض لاستنتاج أن للحبة السوداء قدرة على القضاء على فيروس التاج، نتائج أبحاث مختبرية لفريق باحثين في أحد المعاهد الطبية في تركيا (انظر المرج رقم [1] المرفق في فقرة المصادر). لكن بمراجعتي للبحث، وجدت أن التجارب أُجريت على خلايا سرطانية وليس على الانسان، وأن الفيروس الذي استُعمل هو نوع سلالات فيروس التاج – م.هـ.ڤ.أ 59 – الذي لا يعادي إلا الفئران وليس الإنسان، ولا يصيب الرئة، بل غالبا الكبد والكلية وأحيانا الدماغ.
فلدينا هنا فيروسًا (م.هـ.ڤ.أ 59) يختلف جملة وتفصيلا عن فيروس التاج-2019، الذي يعادي الانسان وليس الفئران، وله خاصية إصابة رئة الانسان بالدرجة الأولى، وليس الكبد أو الدماغ. فالسلالتان يختلفان من حيث النوع الحاضن لهما (الفأر مقابل الإنسان)، ومن حيث نوع المرض الذي يسببانه، ومن ثم الأغلب أن يكون لهما علاجين مختلفين.
ناهيك عن أن من ثوابت العلوم التجريبية وتطوير الأدوية، أن أي دواء لا يمكن بحال اعتباره نافعا ضد مرض معين إلا بإجراء تجارب مباشرة على عدد كبير من المرضى (تجارب سريرية)، في دراسة خاضعة للمراقبة والشروط الدقيقة التي ليس المجال هنا للخوض فيها، ويجب أن تشمل الدراسة تجربة حاكمة أو شاهدة والتي يحصل فيها المرضى على “دواء وهمي”، فيقارن مدى تحسن حالة المرضى الذين تناولوا الدواء الوهمي مع حالة الذين تناولوا الدواء الحقيقي.
فتطوير الأدوية، كما هو معلوم لدى الخبراء، يمر بعدة مراحل، أولها وأسهلها، التجارب على الخلايا. ثم تُجرى تجارب على الحيوانات. وبعدها يمر الدواء بأول مرحلة للفحوصات السريرية والذي تُختبر فيه بداية فقط سلامته، بحيث تجرب كميات مختلفة من الدواء في عدد قليل من أناس أصحاء، فقد يكون الدواء نفسه مضر وله أعراض جانبية خطيرة. وإذا نجح الدواء في هذه المرحلة، يمر بعدها بمراحل أخرى من التجارب السريرية، ليصل الى مرحلة استعماله مباشرة في المرضى إذا نجح في كل التجارب.
في كثير من الأحيان ينجح الدواء في مرحلة التجارب على الخلايا وعلى الحيوانات، لكنه يفشل في التجارب على الإنسان. فالخلية الواحدة ليست كالجسم المعقد التركيبة والحاوي على أعضاء مختلفة، ومواد كيماوية شتى، الخ. وجسم الإنسان يختلف عن أجسام الحيوانات، ومن ثم ليس كل دواء يُظهر فعالية على خلايا منفردة أو على حيوانات، سيكون له نفس المفعول في الإنسان.
فليست هناك أي أبحاث تجريبية تفيد بأن في الحبة السوداء علاج ضد وباء فيروس التاج-2019. فمن الجهل أن يقفز إنسان من تجارب على خلايا أو حتى على حيوانات، ليستنتج مفعول دواءٍ على الإنسان، فهذا يكاد يكون فعلا إجراميا، خصوصا إذا كان الدواء سيسبب هو نفسه ضررا على الإنسان، أو إذا كان بإمكان المريض أن يُشفى من المرض باستعمال دواء حقيقي، فَصُرِفَ عنه بدواء افتراضي، زَيَّنَه له جهلة بالعلوم التجريبية.
مصادر
“1”: Ulasli M1, Gurses SA, Bayraktar R, Yumrutas O, Oztuzcu S, Igci M, Igci YZ, Cakmak EA, Arslan A. The effects of Nigella sativa (Ns), Anthemis hyalina (Ah) and Citrus sinensis (Cs) extracts on the replication of coronavirus and the expression of TRP genes family. Mol Biol Rep. 2014 Mar;41(3):1703-11. https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/24413991
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
هذا المقال نُشِر لأول مرة في شعبان 1441هـ (أبريل 2020م) في موقع عربي 22