كأس العالم الإسلامي لكرة القدم: قطر 2022

نعم، كما قرأت في العنوان، كأس العالم في قطر لهذه السنة (1444هـ/2022م) سيدخل التاريخ كأول بطولة عالمية إسلامية لكرة القدم، هكذا يصوره مشايخٌ وإعلامٌ مساندين لقطر. حسب هؤلاء، فاستقبال قطر لملايين الكفار من مختلف بلدان العالم، فرصة لتعريفهم بالإسلام ودعوتهم إليه،.. مجرد سماعهم للأذان وتأثر بعضهم به، يراه البعض مكسبا عظيما، تُحمد عليه قطر. وآخرون يرون في قدوم ملايين الكفار الى قطر، فرصة ليروا النهضة التي حققتها قطر.
من عاش دهرًا وخَبِر مآرب الناس ومشاربهم ومشايخهم، لم يعد يستغرب لشيءٍ، يدرك أن الانسان يمكن أن تصدر منه، ليس فقط أنبل الأفعال وأحكم الأقوال، ولكن أيضا أحمق الحماقات وأشر الشرور. لذلك لم أستغرب من وصف كأس العالم في قطر بالإسلامي (وصف بلسان الحال أو المقال) والاستشهاد باستغلال الرسول صلى الله عليه مواسم الحج في الجاهلية وتوافد الناس إلى بيت الله الحرام في مكة، ليدعوهم إلى الإسلام. فقد اسْتُشهِد من قبل بآية {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} لتسويغ الصلح مع إسرائيل. واسْتُشهِد بآيتي {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} و{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لتسويغ مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب بحجة الاضطرار، ومن ثم إدخال جيوش الغرب لجزيرة العرب والاستعانة بهم ضد العراق. كما أنهم سموا مصارف ربوية بأنها إسلامية، وأباحوا سباحة المرأة بما يسمى «البوركيني» “الإسلامي” في شواطئ مختلطة بالرجال، رغم أن «البوركيني» يُوَصِّفُ الجسم خصوصا حين يبتل بالماء ويلتصق على الجسد. و«البوركيني» هو عبارة عن بذلة سباحة للنساء تغطي كامل الجسم ما عدا الوجه واليدين والقدمين، وهي مطاطية للمساعدة على الحركة في السباحة.
اقرأ أيضا: «كرة القدم أفيون الشعوب.. تحليل واستنتاجات ج(2)»
بطلان الاستشهاد بدعوة الرسول الوافدين إلى الحج في الجاهلية إلى الإسلام
لا نستغرب لمقارنة المشايخ الباطلة لوفود الناس الى الحج لبيت الله في الجاهلية، بوفود ملايين الناس من الكفار والمشركين لحضور مباريات كرة القدم في قطر.
الحج في الجاهلية أصله عملٌ مشروع، فهو من شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي أُمِرْنا باتباع ملته {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة آل عمران)، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (سورة النساء). نبي الله إبراهيم هو الذي بنى البيت الحرام وسن الحج إليه بأمرٍ من الله {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (سورة الحج)، ولازال الناس منذ عهد إبراهيم يحجون الى البيت الحرام ويتبعون كثيرا من مناسك إبراهيم في الطواف وغيره حتى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وجاء الإسلام ليقر فريضة الحج وكثيرا من مناسك إبراهيم، مع إبطال ما ابتدعته الجاهلية من وثنية وقبيح الأعمال، كطواف بعظهم بالبيت عراة.
ثم إن الرسول لما فتح مكة وأصبح له سلطان عليها، منع المشركين من الحج، رغم أن الحج منسك توارثوه لآلاف السنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (سورة التوبة)، وقد أمَّرَ الرسول صلى الله عليه أبا بكرٍ رضي الله عنه على الحجَّاجِ في العام التاسعِ من الهجرة، وأمره أن يُعلِنَ في الناس أنه لا يجوز لمشرك حج البيت الحرام بعد عامهم هذا. روى أبو هريرة، وقد صاحب أبا بكر في الحج: بَعَثَنِي أبو بَكْرٍ في تِلكَ الحَجَّةِ في مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَومَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بمِنًى: ألَّا يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولَا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيَانٌ. ثُمَّ أرْدَفَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَلِيِّ بنِ أبِي طَالِبٍ، وأَمَرَهُ أنْ يُؤَذِّنَ ببَرَاءَةَ (وهي سورة التوبة)، قالَ أبو هُرَيْرَةَ: فأذَّنَ معنَا عَلِيٌّ يَومَ النَّحْرِ في أهْلِ مِنًى ببَرَاءَةَ، وأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولَا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيَانٌ (صحيح البخاري).
أما كأس العالم لكرة القدم فلا علاقة له بتعظيم الله، ولا أصل له في الدين، ولم يسنه نبي من أنبياء الله. الغرب هو الذي طور كرة القدم الحديثة ووضع نظامها وهو الذي أسس الاتحاد الدولي لكرة القدم – الجهة المشرفة على تنظيم كأس العالم –. وكرة القدم في عصرنا الحالي أداة لتسويق ليس منتجات الشركات الغربية فحسب، بل كذلك لنشر أفكاره وثقافته وهندامه وطريقة احتفاله. فمثلا لا يخفى على أحدٍ دور كرة القدم في الدعاية لفعل قوم لوط، كما أن من ثقافة الجماهير الغربية، أن مشاهدة مباريات كرة القدم يجب أن تكون مصحوبة بتناول الخمور، فمن يُنَظِّم كأس العالم، لا يجوز له منعهم عن تناول الخمور، بل يجب عليه توفيرها لهم، والرسول يقول: «لعن اللهُ الخمرَ، وشاربَها، وساقِيها، وبائِعَها، ومُبْتَاعَها، وعاصِرَها، ومعتصِرَها، وحامِلَها، والمحمولةَ إليه» (صحيح أبي داود). فمسألة الخمور لوحدها، يجب أن تكون سببا كافيا ليمتنع كل بلد مسلم عن تنظيم كأس العالم، ناهيك عن غيرها الكثير من الأسباب.
فإن كان الرسول استغل قدوم الحجاج في الجاهلية الى مكة لدعوتهم للإسلام، فالحج أصله عمل مستحب وسَنَّه نبي، فالناس كانوا يقْدِمون للقيام بمناسك نبي الله إبراهيم التي أقرها الإسلام مع ما اعتلاها من شركيات، ولم يكن للرسول سلطان على مكة، ولم يكن ينفق أي شيء على المشركين والكفار ليحجوا، ومَنَع صلى الله عليه وسلم الكفار والمشركين من الحج وكل مظاهر الشرك لما أصبح له سلطان على مكة.
أما قطر فقد هرولت بمحض إرادتها لاستضافة كأس العالم الذي لا علاقة له بالإسلام والمسلمين ولا بتعظيم الله، ولم يشرعه نبي. توسلت قطر الغرب ودفعت أموالا باهظة ليُسمح لها بتنظيم مهرجان اللهو المحض والفجور الفج، مهرجانٌ معلوم أن الغرب يضع شروطَ تنظيمه، من بينها على سبيل المثال لا الحصر: استقبال كل الناس حتى ممن يفعلوا فعل قوم لوط والسماح لهم باقتناء غرف مشتركة كزوجين، والتبرج، والاختلاط، والخمور، والزنا، وعروض غناء تظهر فيها العورات ويختلط الرجال بالنساء، الخ. هذا ناهيك عن أن تنظيم كأس العالم لكرة القدم كلف قطر 220 مليار دولار على أقل تقدير، أموال أوْلَى بها شرعا المسلمون المهجرون والمشردون في كل بقاع العالم، وعلى رأسهم السوريون والمسلمون في بورما والصومال الذين يقتلهم البرد والمطر في الشتاء والحر في الصيف، ولا يكادون يحصلون على وجبة صحية من الطعام والشراب. الأموال التي تم تبذيرها لتنظيم كأس العالم في قطر، كفيلة بتحويل مخيمات الموت للاجئين السوريين الى مدن تمكنهم من حياة كريمة!
لا تجمع الناس على المنكر وتيسره لهم لتدعوهم للمعروف
أقول للذين يحاولون إضفاء صبغة إسلامية على كأس العالم في قطر، كيف يجمع المسلمُ الناس على المنكرات وييسرها لهم ويبذر فيها الأموال، ليدعوهم خلالها للإسلام؟ فهو كمن يُشَيِّد خمارة أو مرقصا ثم يرسل المشايخ على أبوابها ليدعوا الحضور للإسلام! ما الفرق بين هيئة الترفيه السعودية التي تنفق سنويا الملايين لاستضافة مهرجانات الرقص والغناء، وبين استضافة قطر لكأس العالم لكرة القدم؟
الاسلام لا يجمع بين الحق والباطل، المنكر والمعروف، الإيمان والكفر، الجنة والنار، فاختاروا أحدهما!
ثم أنتم لم تنكروا قط الفعل الأول (استضافة قطر لكأس العالم وما يصاحبه من منكرات) لتثنوا على الفعل الثاني المتوهم (تعريف الحضور بالإسلام)! ألهذه الدرجة تستخفون بعقول الناس للتغطية على عار قطر؟ تشترون بآيات الله غدق قطر عليكم، ما أصبركم على نار جنهم {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (سورة البقرة).
الدولة تدعو الناس للإسلام بأن تطبق أولا شريعته كاملة
ثم إن الدعوة للإسلام من قِبل الدولة، تكون ابتداء بإقامة الدولة نفسها للإسلام كاملا، في الحكم والسياسة الداخلية والخارجية، والاقتصاد والمال والسياسة الحربية، وليس في الأحوال الشخصية فحسب. فالدعوة للإسلام تكون ابتداء بممارسته عمليا. ولو كانت قطر تقيم الإسلام، لمَا نظَّمَت أصلا كأس العالم لكرة القدم، ولا نظمت بطولة العالم لألعاب القوى سنة 1441هـ (2019م)، الألعاب التي يركض فيها النساء شبه عاريات، ويرتدي فيها الرجال ملابس تجَسِّد عوراتهم. ولو كانت قطر أو أي دولة في العالم الإسلامي تقيم الإسلام، لما كانت عندها عقدة النقص تجاه الغرب، ولا سعت لإرضائه، ولا هَمَّها نظرته إليها، ولا أنفقت الأموال على أندية كرة القدم الأوروبية أو على كأس العالم، ألم يحرم الله التبذير {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (سورة الإسراء)، {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (سورة الأعراف).
اقرأ أيضا: «ثلاثية لم أستوعبها: أبو تريكة والمشايخ والدوري الإنجليزي لكرة القدم»
ممارسة الرياضة مباح لكن تنظيم مسابقات دولية باهظة التكاليف وبشروط الغرب باطل
فإنه وإن كانت الممارسة للرياضة مباحة في حد ذاتها للرجال والنساء على السواء، ومستحبة في بعض الأحوال، لأهميتها في تكوين بنية جسمية قوية، والوقاية من كثير من الامراض، والترفيه الخ، إلا أن في الإسلام شروط لممارستها، وعلى الدولة توفيرها لعامة الناس وليس لنخبة من الافراد: من بينها عدم اختلاط النساء بالرجال، بتخصيص مرافق وقاعات للتدريب خاصة بالرجال وأخرى خاصة بالنساء. أما المسابقات الرياضية خصوصا الدولية، التي تُهدَر فيها الأموال الطائلة وتُنظم بشروط الغرب، والسماح بارتكاب المعاصي والمنكرات وتيسيرها، فهذا كله لا يجوز.
إنكار المنكر يكون بمقاطعته وليس بالدفاع عنه والترقيع له
ما دام تنظيم قطر لكأس العالم منكر عظيم، لِمَا يصاحبه من فسق ولتبذير الأموال الطائلة وللخضوع لشروط الغرب، فواجب على المشايخ إنكاره ومقاطعته، وليس محاولة ترقيعه بحضوره بحجة التعريف بالإسلام والدعوة إليه. ثم إنه حتى لو أسلم آلاف الزوار خلال كأس العالم في قطر، فذلك لا يبيح تنظيمه ولا يشرعنه، ولا يمحي عاره وذنوبه. ناهيك عن أن الواقع يظهر العكس تماما، وهو أنه بمشاركة المسلمين للغرب في مهرجاناته ومشاهدتها والاختلاط بأبنائه فيها، فإن التأثير الأكبر والأوسع يكون للغرب على المسلمين وليس العكس. فإن سلَّمْنا جدلا أن عددا من الكفار سيهتدى للإسلام، فإن عدد من يُفتن من أبناء المسلمين بالغربين يكون دائما اضعافا مضاعفة، يتشبهون بهم في لباسهم وطريقة عيشهم وكلامهم وحلاقتهم وتناولهم للمحرمات وعلاقاتهم “المتحررة” بين النساء والرجال، والرجال مع الرجال، والنساء مع النساء.
هل بناء البنية التحتية والمرافق العامة الحيوية يحتاج لتنظيم كأس العالم لكرة القدم؟
لماذا يظن حكام المسلمين أن التقدم المادي لا يتحقق إلا بالانسلاخ من الاسلام وتقليد الغرب في الحرام وإرضائه؟ السعودية ربطت «رؤية السعودية 2030» بسياسات الترفيه والمجون حسب معايير الغرب المناقضة للاسلام. وقطر تربط «رؤية رؤية قطر الوطنية 2030» بتنظيم كأس العالم لكرة القدم الذي بذرت فيه أموالا طائلة واستباحت فيه المنكرات والكبائر.
إن كانت قطر بحاجة لبنية تحتية، فهل لا يمكنها بنائها والنفقة عليها إلا بتنظيم كأس العالم؟ وهل البنية التحتية والمرافق العامة يتم هندستها وتشييدها على أساس الحاجيات الدائمة للشعب والاقتصاد والصناعة والتجارة والنقل، أم على أساس متطلبات مباريات كرة القدم والجمهور الذي سيقضي مجرد شهر في البلاد؟ ثم إن حقوق العمال وحسن رعايتهم وإنصافهم وتمكينهم من حقوقهم، واجب شرعي، يجب على قطر وغيرها من بلدان المسلمين القيام بها امتثالا لأمر الله وليس للاتحاد الدولي لكرة القدم ولا لمنظمات حقوق الانسان الغربية! المسلمون أولى بإقامة العدل من الغرب.