رسالة نصح لعبد الله الشريف بأن لا يتحدث في الشرع

هذا نص رسالة (بتصرف) أرسلتُها السنة الماضية (1443هـ/2021م) الى عبد الله الشريف صاحب قناة مشهورة على اليوتيوب، لم أتوصل قط برد منه، رأيت أن أنشرها لأن الأمر متعلق بمسألة خاض فيها عبد الله الشريف في العلن، ومن ثم ليست متعلقة بأمر خاص. كما أظن أن الرسالة فيها فائدة عامة، تحذر من التحدث في الإسلام بدون علم. النص التالي نسخة منقحة للرسالة الأصلية التي كنتُ قد كتبتها بعجالة، ودون مراعاة أسلوب النشر.
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
الأخ عبد الله الشريف، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
من باب واجب النصيحة، أكتب إليك هذه الرسالة لتنبيهك لأخطاء كارثية ارتكبتها في حلقتك الأخيرة تحت عنوان “المشلوح” (الحلقة 28، الموسم الخامس، 12 ربيع الثاني 1443هـ / 18 نوفنبر 2021م).
https://www.youtube.com/watch?v=h1WPhybKGGU
أخي الكريم، لا تعتبره انتقاصا من شأنك، إن قلتُ لك أنك لست مؤهلا للحديث في الموضوعات الشرعية، فالإنسان لا يجب عليه أن يكون مؤهلا للحديث في كل شيء، ولا ينقص من شأنه إن اقتصر على الحديث فيما له دراية كافية فيه. فأنت غالبا ما تسقط في كوارث عندما تتحدث في مسائل شرعية وفقهية.
ثم يا ليتك عملت بنصيحتك، حيث استشهدتَ بالقول المنسوب لعمر بن الخطاب «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يُمِيتُونَ الْبَاطِلَ بِهَجْرِهِ»، وسكتتَ ولم تتحدث عن “النكرة المشلوح” (القسيس النصراني زكريا بطرس)، ويا ليتك اكتفيت بانتقاد الضجة الاعلامية ضد النكرة وبينت مساوئه (أي زكريا بطرس)، دون الحديث عن مسائل شرعية لستَ مؤهلا للحديث فيها، والأنكى أن النكرة الذي تحدثت عنه، انتصر عليكم كلكم أنتم الذين خرجتم تعملون له دعاية مجانية وترفعوا من شأنه بعدما كان نسيا منسيا، إذْ اتخذتم أسلوب الدفاع عن الاسلام، بدلا من اسلوب الهجوم على الباطل، كما علَّمَنا القرآن والسنة. أسلوب الدفاع يسقط في طامة إقرار ما يريده مهاجمو الاسلام واتخاذ مفهومهم للحق والباطل مقياسا للإسلام وشريعته، فتنفون عن الاسلام ما يعتبره مِقياسهم باطلا، وتؤولون آيات وأحاديث نبوية وسيرة الرسول لتناسب مقياس مهاجميه، وتنفون عن الإسلام ما لا يتوافق مع مقياس أعداءه. وإليك بعض الكوارث التي ذكرتَ (المعني هنا هو عبد الله الشريف):
تصحيح مفاهيم بخصوص النسخ
قلْتَ عن النسخ أنه “تعديل” لما سبقها من آيات وأحاديث، وهذا قول باطل وخطير، لا يليق بالخالق سبحانه، فالله لا يخطئ ليُعَدِّل خطأه، ولا يظهر له أمرٌ بعدما كان خافيا عليه، ولا ينشأ عنده حكم جديد لم يكن موجودا لديه من قبل، هذا ما يسميه العلماء بالبَدَاء.
البَدَاء – وهو من عقائد الشيعة الإمامية وملل أخرى – هو الظهور والإبانة بعد الخفاء، وهو أن يظهر له خلاف ما علم، أو أن يظهر له صوابٌ على خلاف ما أراد. البداء بهذا المفهوم من خاصيات الإنسان، أما الله فمنزه عنه، إذ عِلْمه مطلق، لا يخطئ أبدا ليعدل خطأه، ولا يجهل شيئا قط ليَعْلَمه بعد حين فيأمرنا به! ومن ثم لا يجوز لنا تعليل النسخ بمقاييسنا البشرية، وإنما نؤمن بكل بما أمر به الله ونطيعه فيه، فهو الأعلم بحكمته في نسخ آية أو حديث، ولعل أهم حِكَمه سبحانه هو اختبار إيمان الناس ومدى طاعتهم له دون أدنى تلكؤ.
فانظر على سبيل على المثال لا الحصر، الى قصة تغيير قبلة الصلاة التي وردت في القرآن، فقد تقدم الحديث عن القبلة، الأمر بالإيمان، وأن الهداية تكون بالإيمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم أيًّا كان الحكم، وانتهت الآيات بالتأكيد على أن العبرة ليست باتجاه القبلة نحو المشرق أو المغرب، وإنما بالإيمان بالله والإخلاص له، … يقول الله سبحانه {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (سورة البقرة 136 – 137)، ثم يقول سبحانه عن القبلة: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (سورة البقرة 142)، فالله لم يعلل سبب تغييره للقبلة، ولم يدافع عن حكمه، ولم يفسر لهم حكمه حسب مقياسهم هم للحق والباطل، بل وسماهم السفهاء، فكان تعامل الله مع السفهاء بأن فَصَل في الأمر بأنه هو المالك يفعل ما يشاء في ملكه، ولا يجوز لعباده مسائلته ومحاسبته.
ثم يذكر الله بعض حِكَم تغيير القبلة (واعلم بارك الله فيك أن الحِكمة ليست هي العلة) {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (سورة البقرة 143)، ثم يضيف بعض حِكَمه من تغيير القبلة، ومن بينها إرضاء نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، خير خلقه وأكثرهم تأدبا مع الله وطاعة له: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (سورة البقرة 144). …
ثم يُعَلِّم اللهُ المسلمين بأن الكفار والناس عموما، غاية لا تُرضى، فالمسألة مسألة إيمان أو كفر، وليس تفسير وتعليل ليتقبلها الكافرون والجاحدون والمتلكئون، ..
وعلمنا سبحانه بأنه لا يجوز اتباع أهواء الناس ومحاولة إرضائهم. ومن أوجه إرضاء الكفار والجاحدين والمتنطعين، محاولة تفسير الأحكام الشرعية وتأويلها أو حتى إبطالها، حسب ما يوافق مقياسهم للحق والباطل والقبيح والحسن – حسب ما يوافق هواهم –، إذ يقول الله سبحانه: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} (البقرة 145)، أي أنك يا محمد لو أتيتهم بكل برهان على ما تدعو إليه، ما اتبعوك. ثم يحذر الله نبيه، وهو تحذير لكل المسلمين، بأن يَضْعفوا أمام هجوم الكفار على أحكامهم وآيات قرآنهم، فيدخلهم شك وريب، بل الحق هو الذي أمر به الله، كيفما كان الأمر، فلا تلتفت لما يقوله الكفار {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (البقرة 147)، الْمُمْتَرِينَ أي الشاكين. …
ثم يشد الله عضد المسلمين بزيادة التأكيد على التوجه نحو القبلة الجديدة، وأنه اختار للمسلمين حُكما يختلف عن أحكام الأمم السابقة، فأحكام تلك الأمم ليست مقياسا، فعلى المسلمين اتباع حكم الله، رضي من رضي وسخط من سخط، ولا يجوز خشية الناس {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (البقرة 148 – 150). …
ثم ينتهي الحديث بالتأكيد على أن العبرة الأولى والأكبر ليست في نوع الحكم بذاته (فالله يمكنه تغيير أحكامه وفرائضه كيف يشاء)، وإنما العبرة بالإيمان بالله والإخلاص له {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة 177).
كما أن من حكم الله سبحانه في النسخ، الرحمة بالمسلمين، جزاء على إيمانهم الصادق وإخلاصهم، وحسن خضوعهم لأوامر الله والرسول دون تلكؤ أو تردد. فالله هو الخالق والمالك، يفعل ما يشاء في ملكه، ولا يُسأل عن حكمه.
فمثلا كم من أحكام مشددة أنزلها الله بحق اليهود والنصارى، لتعنتهم وجحدهم، كلما كانوا يُكَذِّبون أنبيائهم أو يتلكؤون في الخضوع لأوامر الله، كلما كانت تنزل عليهم أحكام وشرائع غليظة، كأمرهم بقتل أنفسهم، وتحريم كثير من أنواع الأطعمة عليهم، وتحريم العمل في أيام من الأسبوع، الخ.
النسخ ليس تدرجا في إقامة الإسلام، وليس هناك تدرج في إقامة الشريعة
قلتَ بأن النسخ تدرج في إنزال الأحكام لكيلا تتصادم مع عادات الناس وما ألِفُوه طوال حياتهم السابقة. هذا كلام باطل جملة وتفصيلا، الله لا يخشى التصادم مع عادات الناس وأهوائهم، توحيد العبودية لله هو أكبر وأعظم تصادم مع البشرية، والأنبياء والرسل كانت دعوتهم الأولى هو التوحيد، وكل أحكام الله ما هي إلا فرع من التوحيد، ومقتضياته.
فالنسخ لا علاقة له البتة بالتدرج، وليس هناك تدرج في الإسلام أصلا. فكرة التدرج ابتدعها المسلمون المعاصرون لإبطال الشريعة وتسويغ عدم إقامة الحكام لها، ولتسويغ ضعفهم وهوانهم وقلة إيمانهم. … ومن أبسط الأمثلة على بطلان فكرة التدرج، أن هناك أحكاما نُسخت كانت شديدة، فاستبدلها الله بأحكام أخف، رحمة بالمسلمين بعدما رأى امتثالهم لأمره.
فخذ مثلا أحكام الصيام كيف كانت شديدة عند تشريع الصوم أول مرة، فخففها الله بعد ذلك. الصيام كان بداية يستوجب الامساك عن الاكل والشرب ابتداء من دخول وقت العشاء إلى غروب الشمس في اليوم التالي، والجماع كان محرما في رمضان، وإذا نام المسلم بعد غروب الشمس ولو للحظة حرم عليه الأكل والشرب، ووجب عليه إتمام الصيام إلى غروب شمس اليوم التالي. …. تَذْكر كتب السنة والسِّيَر قصة الصحابي الذي جاء منهكا من عمله، فسأل امرأته لتعد له الإفطار، لكن من شدة تعبه نام قبل ان تحضر له زوجته الطعام، فواصل الصيام، فما إن حل منتصف النهار من اليوم الثاني حتى كان مجهداً منهكاً فسقط مغمى عليه، … فَمَنَّ الله على المسلمين بتخفيف تكاليف الصيام، فجعل وقت الافطار أطول، من المغرب الى الفجر، كما أباح في هذا الوقت الجماع والنوم، إذ أنزل سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (سورة البقرة).
وقيام الليل كان واجبا على الرسول في بداية الامر، و على ما يبدو مندوبا – على اقل تقدير – في حق الصحابة، فكان الرسول ومعه الصحابة يقيمون ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه حتى ورمت أقدامهم من القيام، فمَنَّ عليهم سبحانه بتخفيف قيام الليل، إذ أنزل سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة المزمل).
والله لما شَرَّع القتال فرض بداية ألا يفر مقاتل واحد من المسلمين من أمام عشرة من جند الكفار، فإن واجه عشرة من جنود المسلمين مائة من جنود الكفار وجب عليهم الثبات و القتال {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} (سورة الانفال)، … فلما رأى الله استجابة المؤمنين لأمره وبدلهم كل ما في وسعهم لإرضائه وثباتهم ولو كان عدد جنود العدو أضعافا مضاعفة، مَنَّ عليهم سبحانه فخفف شرط القتال إذ جعل عليهم أن لا يفرَّ رجل من رجلين، فإن كان المسلمون دون ذلك، لم يجب عليهم أن يقاتلوا (لكن يجوز لهم إن اختاروا ذلك)، و جاز لهم أن يتحوّزوا عن الأعداء {الآن خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (سورة الانفال).
ونفس التخفيف من الأشد الى الأخف، نراه في عقوبة الزنا، الخ. ولدينا قصة إبراهيم وأمره بذبح ابنه، الحكم الذي استبدله الله بذبح شاة لما رأى استجابة إبراهيم وابنه المطلقة لحكم الله والصبر على ذلك.
تأويل أحكام الميراث والجـــهـــاد ليوافق أهواء أعداء الإسلام
كلامك (المعني عبد الله الشريف) الدفاعي عن الميراث والفتوحات باطل، اتخذت هنا أيضا مقياس أعداء الإسلام لتفسيرهما. قلتَ أن الدعوة قديما كانت تستوجب الفتوحات، لأنه لم تكن هناك وسائل للوصول الى الناس والتواصل معهم كما في عصرنا الحالي، ومن ثم نستنتج من قولك أن الفتوحات أصبحت باطلة في عصرنا ما دام أصبحت اليوم وسائل أخرى متاحة لتبليغ الإسلام، مثل وسائل التواصل الرقمية على الشابكة!؟ هذا كلام باطل جملة وتفصيلا، فالجـــهـــاد ماض الى يوم الدين، وهدفه ليس فقط تعريف الناس بالإسلام ودعوتهم إليه، ولكن إخضاع البلاد والعباد لأحكام الله، مع حرية الأفراد في البقاء على ملتهم أو اعتناق الإسلام.
والتعليل بأن الرجل يجوز له أخذ ضعف ما تأخذه المرأة من الميراث في حالاتٍ، لأنها في المقابل تأخذ أكثر من الرجل في حالات أخرى من الميراث، هذا كلام باطل جملة تفصيلا، ويكفي أن في غالب الأحوال لا ترث غالبية النساء إلا مرة واحدة في حياتهن، يرثن آبائهن فقط، ومن ثم لا يحصلن في حياتهن إلا على نصف ما يحصل عليه إخوانهن الذكور، وإذا لم يكن لهن إخوة، شاركهن العصبة (الأعمام مثلا) في الإرث، أما الولد الذكر فلا تشاركه عصبته في إرث أبيه. …. فالمسلم لا يقيس العدل بكمية ما تحصل عليه المرأة، والعدل في الإسلام ليس بتساوي المرأة والرجل في كل شيء وكل فعل. يجب التوقف عن الدفاع عن الإسلام وإخضاعه لمقاييس أعداءه، وإنما الإسلام هو المقياس للحق والباطل، عليه تُقاس سائر القوانين والأعراف والأحكام البشرية، فيُذَم ويُرَدُّ كل ما يخالفها.
نصيحة لعبد الله الشريف
أخي الكريم، كلما كان لشخص أتباع كُثر، كلما كانت مسؤوليته أمام الله أكبر، إذ كما يُؤجر على حسنات هدايته الناس للحق، يتحمل أيضا وزر ما أرشد الناس إليه من أفكار باطلة، ويُحاسب عليها عند الله، وكلما زاد عدد من أضلهم، زاد إثمه. ومن ثم أتمنى أن تراجع نفسك فيما قلتَ في هذه الحلقة، على ضوء اليسير الذي بينتُ لك هنا (لتستعين به في المزيد من البحث والتبَيُّن)، وتتراجع عما قلت علنًا في حلقة خاصة، وتبين لمتابعيك مواطن الخطأ، فتُؤجر على ذلك بإذن الله.
نصيحتي لك أخي الكريم، أن تبتعد عن الخوض في مسائل شرعية وفقهية، فأنت لست مؤهلا لذلك، اقتصر على الموضوعات التي أنت مؤهل لها وبارع فيها (الفكاهة السياسية). الحديث في الشرع له علومه وأدواته ولغته وألفاظه، فمثلا حين قلت بأن “النسخ تعديل لحكم سابق”، أعلمُ أنك لا تقصد أن الله يخطأ أو يجهل شيئا فبدا له بعد حين، لكن هذه الأخطاء هي نتيجة بديهية لمن لم يتحصل علما شرعا بالطرق المتعارف عليها في تلقي العلم الشرعي، ولم يَتَشرب العلوم الشرعية ومصطلحاتها وأدواتها وضوابطها. فمن بين أهم أركان العلوم الشرعية، ضبط الألفاظ والمصطلحات، فقد يقول المسلم كلمة سهوا أو جهلا، تهوي به في الظلمات، خصوصا إذا تلقفها منه أصحاب الأهواء فضَلُّوا بها وأَضَلُّوا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ» (صحيح البخاري).
إن كانت عندك أي استفسارات أخي الكريم، فلا تتردد في مراسلتي
وفقكم الله للخير
الدكتور هشام البواب