علوم شرعية وفقهية

دين الله ألعوبة بيد مشايخ، يقصون أحكامه على مقاس الحكام

في عصرنا الهابط هذا، الذي طغى فيه الجهل والنفاق والتملق والانتهازية، نعيش انتشار ظاهرة أغرب وأشد جرمًا وأعظم إثما وأكبر نفاقًا، ألا وهي ظاهرة تغير الأحْكام بتغير الحُكَّام. فبالنسبة لكثير من المسلمين، وعلى رأسهم مشايخُ وأحزاب وجماعات إسلامية، الحُكْم على أشياء وأفعال وسياسات بأنها حرام أو حلال، مباح أو مكروه، ليس مستندا لقول الله والرسول، وإنما تتغير حسب موقفهم من الحاكم أو الدولة: هل يُوالون الحاكم ويحبونه ويمجدونه أو يكرهونه ويعادونه؛ هل يعيشون تحت سلطته ويخافونه أو أمِنوا بطشه؛ هل يطمعون في عطائه وحمايته أو هم في غِنى عنه.

فتجد نفس الشيخ الذي يستنكر بشدة سياسات وقوانين ومواقف حُكَّامٍ في بلدان إسلامية، يصمت صمت الميت عن عين السياسات والقوانين والمواقف في بلدان أخرى، إذا كان الذي قام بها حاكم ممن يحبُّه الشيخُ أو ممن يطمع في عطائه وحمايته أو يخاف بطشه، أو حتى يبرر تلك السياسات ويستسيغها، ويخرجها في عباءة إسلامية، كما فعل مثلا مؤخرا مشايخٌ مع كأس العالم لكرة القدم في قطر.

وخذ بعض الأمثلة الحية على قاعدة تغير الأحْكام بتغير الحُكَّام

 

https://www.youtube.com/watch?v=Wllv277eNss

الحكم الشرعي بخصوص سياسات الترفيه تختلف حسب شخص الحاكم

كان مشايخ السعودية، برضا ملوك آل سعود، يُحَرِّمون لعقود سياقة المرأة للسيارة ويحرمون الغناء والموسيقى والسينما والرقص والتبرج والاختلاط بين الرجال والنساء ويأتون بالأدلة المفصلة على الحرمة، فلما جاء محمد بن سلمان للحكم وأعلن تغيرا جذريا في سياسة الدولة والتي من أهمها اتباع سياسية “الانفتاح” على الحضارة الغربية بإنشاء هيئة عامة للترفيه التي سارعت لتنظيم مهرجانات رقص وغناء ورياضة، استضافت فيها مشاهير المحترفين في هذه المجالات، بعضهم ظهر بملابس تظهر العورات بشكل فاضح، وحضر تلك المهرجانات جماهير مختلطة من النساء والرجال، … لما تغيرت سياسات النظام السعودي، خرج كثير من مشايخ السعودية ليفتوا فجأة بجواز سياقة المرأة للسيارة، وبأن الغناء والموسيقى والسينما ليس حرامًا… إلخ.. فجأة تبخرت كل الفتاوى والأدلة الشرعية على حرمة كل تلك الأفعال، والتي لقَّنوها لمئات ملايين المسلمين عبر العالم.. فجأة أصبح الحرام حلالًا؛ لأن محمد بن سلمان أراده كذلك.

أقام مشايخُ الدنيا ولم يقعدوها على حفلات الغناء والرقص التي بدأت تُقام في السعودية، لكن نفس المشايخ يطبلون لكأس العالم لكرة القدم في قطر، أو صمتوا عنه صمت الأموات، وكأن أكبر حدث في العالم على مدى شهر، لم يحدث قط. كما أن نفس مشايخ كأس العالم يصمتون صمت الأموات عن حفلات ومهرجانات المجون والفحش والشــــذوذ التي تُقام في تركيا، ويبررون القوانين التركية التي تبيح الخمور ودور الدعارة والشذوذ الجنسي والسياحة الجنسية.

https://www.youtube.com/watch?v=xhJOTi7Plis

الديمقراطية والقوانين الوضعية حلالٌ على حاكمٍ حرامٌ على آخر

الديمقراطية والقوانين والدساتير الوضعية التي تجعل التشريع للبشر لا لله، كان يعتبرها كثير من المشايخ من الكبائر المخرجة من ملة الإسلام، لكن بعد انتفاضة مصر سنة 1432هـ (2011م)، خرج جزء كبير من أولئك المشايخ ليبيحوا فجأة جواز مشاركة الأحزاب الإسلامية في انتخابات النظام العلماني الديمقراطي في مصر وفي البرلمانات التشريعية التي تسنُّ القوانين حسب رأي أغلبية النواب، وليس حسب قول الله والرسول، وباركوا اعتلاء محمد مرسي (عضو قيادي في جماعة الإخوان المسلمين) منصب الرئاسة على رأس هرم الدولة العلمانية، وأفتوا بوجوب التصويت بنعم في الاستفتاء الشعبي على دستور الإخوان لسنة 1433هـ  (2012م)، رغم أن الدستور كان يحمل بين طياته الكفر البواح حسب المعايير الشرعية التي كان يفتي على أساسها نفس المشايخ قبل الانتفاضة الشعبية في مصر.

كان غالبية المشايخ يحرمون الربا واقتراض الدولة ديونًا ربوية من المصرف الدولي ويعتبرونه من الكبائر، لكن لما أصبح محمد مرسي رئيسًا لمصر، برروا اقتراضه ديونًا ربوية واعتبروها اضطرارًا يبيحه الشرع.

الخروج على الحاكم حرام إلا إذا كان الحاكم إخوانيًا

طالما نظَّر مشايخُ (على رأسهم مشايخ التيار المدخلي) لعدم جواز الخروج على الحاكم، لكن لما انقلب عبد الفتاح السيسي على رئيسه المنتخب مرسي بارك كثير منهم الانقلاب وسوَّغه.

مسألة الاعتراف بإسرائيل والتعامل معها

قضية إسرائيل كانت من القضايا العقائدية لجماعة الإخوان المسلمين، إذ كانت تحرم (أي الجماعة) التعامل مع إسرائيل منعًا قطعيًا وتجرم الاعتراف بها، وتعتبر اتفاقية كامب ديفيد خيانة عظمى، وكفرَّ بعض مشايخ الإخوان الحكام الذين اعترفوا بإسرائيل وينسقون معها أمنيًا وعسكريًا. لكن لما أصبح مرسي رئيسًا لمصر واعتمد سفيرًا لدى إسرائيل وابتعثه برسالة حميمية لشيمون بيريز وأقرَّ اتفاقية كامب ديفيد، وهدم مرسي الأنفاق من الجانب المصري التي كانت تمد أهل غزة بما يحتاجونه للحياة أمام الحصار المُطبق عليهم، صمت أولئك المشايخ صمت الأموات ولم يعقبوا على عين السياسات التي كانوا يستنكرونها بشدة على حسني مبارك، حتى أن منهم من برر فعل مرسي.

أقام مشايخُ الدنيا ولم يقعدوها، لما عُلِم أن الدولة السعودية، وعلى رأسها محمد بن سلمان، لها علاقات سرية غير رسمية مع إسرائيل، لكن نفس المشايخ لا يتكلمون ببنت شفة عن علاقات تركيا (تحت حكم رجب طيب أردوغان) العلنية الرسمية الوطيدة مع إسرائيل على جميع المستويات (عسكرية، أمنية، مخابراتية، تجارية… إلخ)، فعلى سبيل المثال لا الحصر اعتقلت تركيا سنة 1436هـ (2015م) امرأة فلسطينية، تُدعى إيمان كنجو (الحاصلة على دكتوراه في الشريعة الإسلامية)، على الحدود التركية السورية وسلَّمتها لإسرائيل (ويُرَجَّح أن اعتقال تركيا للسيدة كنجو كان بأمر إسرائيلي التي كانت تتعقب تحركاتها ونسقت مع المخابرات التركية متابعة تحركاتها عند وصولها لتركيا). وتركيا تنظم رحلات سياحية لمواطنيها وإلى إسرائيل، كما تنظم إسرائيل رحلات سياحية لمواطنيها الى تركيا. وتركيا لها سفارة في تل أبيب وقنصلية في القدس، ولإسرائيل سفارة في أنقرة وقنصلية في إسطنبول.

التحالف مع روسيا وإيران

استنكر مشايخُ الزيارات والرسائل التي تبادلتها حركة حماس في غزة مع روسيا وإيران بحجة أن هذين الدولتين تقاتلان أهل السُّنة في الشام، رغم أن علاقات حماس وإيران تكاد تنحصر في دعم الأخيرة لحماس في مقاومتها ضد إسرائيل. لكن نفس المشايخ لا يذكرون ببنت شفة تحالف تركيا مع إيران وروسيا ضد أهل السُّنة في الشام، ودور تركيا في تسليم حلب لنظام بشار الأسد سنة 1437هـ (2016م)، وما تلاها من اتفاقات أستانة وسوتشي التي تعهدت فيها تركيا لروسيا وإيران بإرغام الثوار على تسليم المناطق التي حرروها دون كبير مقاومة لتجنيب الاحتلالين الروسي والإيراني تبعات حرب يطول مداها وترتفع تكلفتها وخسائرها العسكرية والمادية على المحتلين.

بين جمال خاشقجي ومحمد عبد الحفيظ

أقام المشايخ المؤيدين لتركيا الدنيا ولم يقعدوها على جريمة قتل جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول سنة 1440هـ (2018م)، وحَمَّلوا محمد بن سلمان (الحاكم والملك الفعلي في السعودية) المسؤولية المباشرة على جريمة القتل، لكن لما سَلَّمت تركيا الشاب المصري محمد عبد الحفيظ لمصر، الذي كانت قد حكمت عليه محاكم السيسي غيابيًا بالإعدام بتلفيق تهمة قتل النائب العام المصري هشام بركات سنة 1436هـ (2015م)، وأصبحت بالتالي تركيا مشاركًا فعليًا وعمليًا في الجرائم البشعة التي ستقع على محمد عبد الحفيظ في معاقل السيسي من تعذيب وحشي إلى القتل خنقًا على حبل المشنقة، صمت غالبية أولئك المشايخ صَمْتَ الأموات، ومن تكلم منهم، وعلى رأسهم وجدي غنيم، برَّأ على كل حال ذمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، واعتبر جريمة تسليم الشاب المصري تصرفا انفراديا لبعض الموظفين بمطار أتاتورك في إسطنبول/ حتى أن ، وعلى وجدي غنيم حَمَّلَ بكل وقاحة محمد عبد الحفيظ نفسه مسؤولية تسلميه لمصر، إذ – حسب تبريره – كان محمد عبد الحفيظ يحمل تذكرة سفر للقاهرة وكان قادما من الصومال، إلخ… ومنهم من حمَّل السعودية وجماعة فتح الله جولن المحظورة في تركيا مسؤولية تسليم محمد عبد الحفيظ لمصر.

نفس المشايخ الذين لم يقبلوا بتصريحات محمد بن سلمان بأن موظفين سعوديين هم من اغتالوا خاشقجي دون علمه، ولم يشفع عندهم حتى قضاء محاكم محمد بن سلمان بالإعدام على بعض المتورطين في عملية قتل خاشقجي، خرجوا ليسَوِّقُوا بشدة أن أردوغان وحكومته لم يكونوا على علم بتسليم محمد عبد الحفيظ لمصر، وأن من الأدلة على ذلك أن الحكومة التركية حوَّلت بضعة موظفين بمطار أتاتورك للتحقيق. نفس المشايخ الذين يستنكرون بشدة على نظام السيسي وإعلامه تحميل الإخوان المسلمين المعارضين لحكم السيسي المسؤولية عن كل جريمة سياسية أو إرهابية تقع في مصر، هم أنفسهم من يسارعون اليوم طواعية وبدون أدلة لتحميل جماعة جولن المعارضة لحكم أردوغان مسؤولية جرائم سياسية أو إرهابية تقع في تركيا.

القواعد العسكرية الغربية في البلدان الإسلامية

الموقف الشرعي من القواعد العسكرية لأمريكا وحلف الشمال الأطلسي النصراني في البلدان الإسلامية يختلف حسب ولاء الشيخ وميوله. فإن كانت تلك القواعد العسكرية الغربية في دول يوالي الشيخُ حُكَّامَها، فتلك القواعد العسكرية والتحالفات من سياسة الاضطرار، لتحمي مثلًا كرسي أولئك الحكام أو لتحمي البلاد من أي اعتداء خارجي، أو لأن الحكام لما وصلوا لمنصب الحكم كانت تلك القواعد العسكرية الغربية متواجدة في البلد الإسلامي وأصبحت بالتالي أمرًا واقعًا مفروضًا يستحيل تغييره، أو على الأقل يصمت الشيخ عن تلك القواعد العسكرية ولا ينتقدها. أما إن كانت تلك القواعد العسكرية والتحالفات في دولٍ لا يدين الشيخُ لها بالولاء ويبغض حكامها، فتصبح تلك القواعد العسكرية فجأة صليبية وتَمَرْكزها في البلد المسلم حرام، خيانة عظمى وموالاة لجيوش الكفار ضد المسلمين، وتواطؤ مع الكفار لقتل المسلمين وقصف بلدانهم.

خاتمة

دين الله أصبح ألعوبة بيد كثير من المشايخ، يقُصُّون نصوص القرآن والسُّنة حسب مقاس الحاكم الذي يعظمونه ويطيعونه ويهابونه، أو يرجون عطاءه أو حمايته. الحرام الذي يُغضب حاكمهم المحبوب لا يذكرونه، والفرض الذي لا يقوم به الحاكم، يتجاهله المشايخ. الحلال والحرام عندهم ما أحله الحاكم أو حرمه، كل شيخ يضع حاكمه المفضل (أيًّا كان الحاكم وأيا كان الشيخ) منزلةً فوق منزلة الرسول، منزلة تشبه منزلة الإله {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (سورة الشعراء).

حتى الرسول كان الصحابة يراجعونه في أمور عدة، فيقولون له أهذا أمرٌ من الله أم من رأيك الشخصي، فإن لم يكن أمرًا من الله راجعوه فيه، وكان غالبًا ما ينزل عند رأي الصحابة. أما مشايخ وعلماء عصرنا الحالي فحاكمهم المفضل منزه عن الخطأ، ولا يجوز مراجعته ولا انتقاده في أي شيء. حاكمهم المفضل دائمًا على حق، لا يأمرونه أبدًا بمعروف ولا ينهونه أبدًا عن منكر مهما كان المنكر بيِّنًا وعظيمًا، وإن وقع فِعْلٌ باطلٌ أو إجرامي لا يستطيعون إنكار حدوثه ولا تحسينه، فالفعل قطعًا وقع دون عِلْمِ حاكمهم، بل هو من صنيعة مندسين ودول متآمرة يريدون سُوءًا بالحاكم. أفعال الحاكِمِ المفضل لدى الشيخ كلها مباركة وسليمة وعبقرية وحكيمة وتنم عن حنكة ودهاء سياسي وإشعاع إيماني .. أما أفعال الحاكم الذي يبغضه الشيخ فكلها باطلة وغبية وارتجالية وخدمة للغرب وتآمر وخيانة وكفر.



 

جميع الآراء الواردة بهذا المقال تعبر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

Print Friendly, PDF & Email
اظهر المزيد

د. هشام البواب

الدكتور هشام البواب، ناقد ومحلل سياسي واجتماعي مستقل . مقالاته تشمل موضوعات سياسية واجتماعية وفقهية وعلوم تجريبية :::::: بعض كتابات الدكتور هشام البواب في الرابط التالي: https://atanwir.com/منشورات-الدكتور-هشام-البواب ::::::: hicbou1@mailfence.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Enter Captcha Here : *

Reload Image

زر الذهاب إلى الأعلى