سياسة

الهيبة للرعية ولا هيبة لدولة ظالمة

الدولة تحولت لصنم يُعبد من دون الله، أصبحت كيانًا مُقَدَّسا، يجب الخوف منه وتوقيره، فبات العبيد الجدد يروجون لما يُسمى “هيبة الدولة”. الدولة بالنسبة إليهم يجب أن تكون مهابة الجانب لا لشيء إلا لأنها كيان ذي سلطان، مهابة الجانب لذاتها ليس إلا، ولا تُسأل عما تفعل.

يعتبرون انتقاد الحكام ومحاسبتهم، انتقاصٌ لهيبة الدولة، .. نهي الحكام عن المنكر وأمرهم بالمعروف، يرون فيه تقويضًا لهيبة الدولة وخروجا على الحاكم، يستحق عقوبة القتل حتى. للحفاظ على هيبة الدولة، يجب عليها الضرب بيد من حديد، يقول العبيد الجدد وعلى رأسهم مشايخ السلطان، فيسوغون الاعتقالات والسجن والتعذيب والقتل للحفاظ على “هيبة الدولة”! …

هذا كله باطل وظلم عظيم، ما أنزل الله به من سلطان!

الدولة ومؤسساتها ليست لها قداسة في الإسلام. الدولة لا هيبة لها إلا هيبة الرعية؛ وهيبة الرعية هي من تعظيم حُرُماتهم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «إنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ وأَبْشَارَكُمْ، علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا» (صحيح البخاري). “أَبْشَارَكُمْ”جمع بشرة وهي ظاهر الجلد من الإنسان، كل ما يعيب البشرة من ضرب أو شتم الخ، فهو حرام.

فلا هيبة لدولةٍ إذا لم تكن فيها حصانة لحرية الناس وأرواحهم وكرامتهم وأعراضهم وأموالهم، بحيث يمكن للحاكم أن يعتدي عليها في أي وقت وبدون وجه حق شرَّعَه الله. .. لا هيبة لدولةٍ، يهابُ الناس فيها الحكام، يهابون محاسبتهم، يهابون الإشارة لظالم ذي نفوذ في البلاد ولا يستطيعون الاقتصاص من الظلمة ذوي نفوذ وسلطان. .. لا هيبة لدولةٍ رعاياها يعيشون في خوف؛ يتعتعون حين يريدون المطالبة بحقوقهم وحين يتعلق الأمر بالتحدث عن الحاكم أو نظام الحكم، يَحْذَرون ألا يقولوا ما يغضب الحكام. .. أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فَكَلَّمَهُ، فجَعلَ ترعدُ فرائصُهُ (من شدة الخوف)، فقالَ لَهُ الرسول: «هوِّن عليكَ، فإنِّي لستُ بملِكٍ، إنَّما أَنا ابنُ امرأةٍ تأكُلُ القَديدَ» (صحيح ابن ماجه). (فإنِّي لَسْتُ بمَلِكٍ)، أي: لستُ على صِفَةِ الملوكِ الجبابرَةِ الَّذين يَخافُهم النَّاسُ ويخشَوْنَ بطْشَهم وأذاهم، وفي هذا ذم للحكام الجبابرة الذين يخافهم الناس.

هيبة الرعية تتحقق حين يخاف الحاكمُ المساس بحقوق الناس أو ظُلْمهم، بوجود قوانين صارمة وقضاء عادل مستقل، يقاضي الحاكم إذا ظلم ويقتص منه، ويعزله إن اقترف ظلما أو قصر تقصيرا يوجب العزل. كيف لا يُقتص من الحكام وقد كان الرسول يُقِصُّ من نفسه والخلفاء الراشدون من بعده.

فقد طعن الرسول رجلا في خاصِرته بعودٍ، فقال الرجل: أوجعتَني، رد عليه الرسول: «اقتَص»، قال الرجل: يا رسولَ اللهِ، إن عليك قميصًا، ولم يكن عليَّ قميصٌ. فرفَعَ رسولُ اللهِ قميصَه ليقتص منه الرجل بالمثل .. (صحيح أبي داود).

وخطب عمر بن الخطاب في الناس فقال: “أَلَا إِنِّي وَاللهِ مَا أُرْسِلُ عُمَّالِي إِلَيْكُمْ لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ، وَلا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ، وَلَكِنْ أُرْسِلُهُمْ إِلَيْكُمْ لِيُعَلِّمُوكُمْ دِينَكُمْ وَسُنَّتَكُمْ، فَمَن فُعِلَ به شيء سوى ذلك فَلْيَرْفَعْهُ إِلَيَّ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِذًا لَأُقِصَّنَّهُ مِنْهُ”، فَوَثَبَ عَمْرُو بن العَاص فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، أَوَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَعِيَّةٍ، فَأَدَّبَ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ، أَئِنَّكَ لَمُقْتَصُّهُ مِنْهُ؟ رد عليه عمر: “إِي والذي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ، إِذًا لَأُقِصَّنَّهُ منه، أَنَّى لا أُقِصَّنَّهُ منه، وقد رَأَيْتُ رسول الله يُقِصُّ من نَفْسِهِ؟ أَلَا لا تَضْرِبُوا المُسْلِمِينَ فَتُذِلُّوهُمْ، وَلا تُجَمِّرُوهُمْ فَتَفْتِنُوهُمْ، ولا تَمْنَعُوهُمْ حُقُوقَهُمْ فَتُكَفِّرُوهُمْ، وَلا تُنْزِلُوهُمُ الغِيَاضَ فَتُضَيِّعُوهُمْ” (مسند أحمد). “ولا تُجَمِّرُوهُمْ”، أي: تَجْمِيرُ الجَيْشِ: جَمْعُهُمْ فِي الثُّغُورِ وَحَبْسُهُمْ عَنِ العَوْدِ إِلَى أَهْلِيهِمْ. “فَتُكَفِّرُوهُمْ”، أي: تَحْمِلُوهُمْ على الكفر بالله، لِظَنِّهِم أنَّهُ ما شَرَعَ الإنْصَافَ في الدِّينِ. “الغِيَاضَ”، أي: الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ، قِيلَ: لِأَنَّهُمْ إِذَا نَزَلُوهَا، تَفَرَّقُوا فِيهَا، فَتَمَكَّنَ مِنْهُمُ الْعَدُوُّ.

مؤسسات الدولة واجبها تحقيق وضمان هيبة كل رعاياها، فقيرهم وغنيهم، قويهم وضعيفهم، كبيرهم وصغيرهم، نسائهم ورجالهم، مسلمين وذميين، وذلك بحماية أرواحهم ودينهم وأموالهم وأعراضهم ورعاية مصالحهم حسب أوامر الله ونواهيه، والقصاص ممن ثبتت عليهم جرائم بأدلة أقرها الشرع، وضمان حق الناس، بل واجبهم، في محاسبة الدولة إن قصرت في أي واجب من واجباتها أو ظلمت.

هيبة الرعية تتحقق حين يُمَكَّن كل فرد من حياة كريمة تُصان فيها كرامته، ويكون للمظلوم وللضعيف ظهر يسنده ويقويه، ينصره على كل ظالم ويرد له حقه ويقتص له منه. .. هذه هي أصول الدولة التي أسسها الرسول وسار عليها صحابته. ..

حين تولى أبو بكر الصديق رئاسة الدولة كأول خليفة لرسول الله في الحكم، قال في أول خطبة له لما بايعه المسلمون: [يا أيُّها الناس، قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حقٍّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني. أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإذا عصيتُه فلا طاعة لي عليكم. ألا إنَّ أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحقَّ له، وأضعفكم عندي القويُّ حتى آخذ الحقَّ منه] (سيرة ابن هشام، البداية والنهاية لابن كثير). فالدولة واجبها أن تكون سندا للضعفاء وليس للأقوياء الظلمة ضد الضعفاء.

مطالبةُ الناس بحقوقهم وانتقادهم للحكام ونهيهم عن المنكر وأمرهم بالمعروف، والغلظة عليهم إذا رأوا منهم ظلما أو تقصيرا، حق كفله الاسلام، بل واجب فرضه الاسلام، لا يجوز اعتباره جريمة ضد الدولة تستحق العقوبة.

لَسْتُم، أيها الحكام، أحسن مقامًا من الرسول الذي جاءه رجل يتقاضاهُ في دَينٍ، فأغلظ الرجل للرسول واشتدَّ عليه حتى أنه قال له: أحرِّجُ عليْكَ إلَّا قضَيتَني (أي: أُوقِعُك في الحرَجِ والضّيق إلا قَضيتَني بدَيني)، فانتَهرَهُ الصحابة وقالوا: ويحَكَ تدري من تُكلِّمُ؟ قالَ الرجل: إنِّي أطلبُ حقِّي! فعاتب النبي صلى الله عليهِ وسلم الصحابة: «هلَّا معَ صاحبِ الحقِّ كنتُم»، ثم أرسل إلى خَولةَ بنت قيس فقال لها: «إن كان عندك تمرٌ فأقرِضينا حتى يأتيَنا تمرُنا فنَقضِيَك»، فقالت نعم بأبي أنت يا رسول الله. فأقرضَتْهُ، فقضى الرسولُ الأعرابيَّ وأطعمَهُ. قال الرجل: أوفيتَ أوفى اللَّهُ لَكَ. فقال الرسول: «أولئِكَ خيارُ النَّاسِ، إنَّهُ لا قُدِّست أمَّةٌ لا يأخذُ الضَّعيفُ فيها حقَّهُ غيرَ متَعتَعٍ» (صحيح ابن ماجه). “أولئك خِيارُ النَّاسِ” أي: الَّذين يُوفونَ للنَّاسِ حُقوقَهم. قول الرسول: «إنَّه لا قُدِّسَت أُمَّةٌ لا يأخُذُ الضَّعيفُ فيها حقَّه غيرَ مُتعتعٍ»، أي: لا زُكِّيَت ولا طُهِّرَت أمة لا يأخُذُ الضَّعيفُ فيها حقَّه بلا إكراهٍ، ودونَ أنْ يُصيبَه أذًى يُقلِقُه ويُزعجُه، ودونَ مُمطالةٍ.

وكان الرسول يأمر وُلاته بتجنب كل أنواع الظلم، فمِمَّا قال مثلا لمعاذ بن جبل حين ولاه على اليمن: «إِيَّاكَ وكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ، واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فإنَّه ليس بيْنَهُ وبين الله حِجَابٌ» (صحيح البخاري). “فإيَّاك وكَرائمَ أموالِهم”، أي: لا تأخذ في الزكاة نَفائسَ أموال الناس وأفضَلَها عِندَهم، بل خذ من أواسطِ المال؛ حتى تَطِيب نفْسُ المُزكِّي لذلك.

الأنظمة المتحكمة في بلدان المسلمين، والعربية منها على الخصوص، زرعت الخوف بدلا من الأمن، فترتب عنه شيوع الكذب والنفاق والتملق بدلا من الصدق.
أما الهيبة فلا تُكتسب بالخوف وإنما بالحق والعدل والإحسان. كتب الجَرَّاحُ بن عبد الله الحَكَمِيُّ، والي خُرَاسَان، إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز: إن أهل خراسان قوم ساءت رعيتهم، وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك. فكتب إليه عمر: أما بعد، فقد بلغني كتابك تَذْكُر أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم، وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فقد كَذَبْتَ، بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم، والسلام” (تاريخ الخلفاء للسيوطي).



 

جميع الآراء الواردة بهذا المقال تعبر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

Print Friendly, PDF & Email
اظهر المزيد

د. هشام البواب

الدكتور هشام البواب، ناقد ومحلل سياسي واجتماعي مستقل . مقالاته تشمل موضوعات سياسية واجتماعية وفقهية وعلوم تجريبية :::::: بعض كتابات الدكتور هشام البواب في الرابط التالي: https://atanwir.com/منشورات-الدكتور-هشام-البواب ::::::: hicbou1@mailfence.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى