رسالة حسن البنا: الى مقام صاحب الجلالة الملك فاروق الأول

الى مقام صاحب الجلالة الملك فاروق الأول
الرسالة نشرها حسن البنا في مجلة “النذير” التابعة للإخوان المسلمين:
العدد الثاني، 6 ربيع الثاني 1357هـ (5 يونيو 1938م)
حضرة صاحب الجلالة الملك الصالح فاروق الأول، أيد الله ملكه وأعز به دولة الإسلام.
أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وأرفع الى السدة العلية ولاء أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في القُطر المصري كله، بل في العالم الإسلامي أجمع، إخلاصهم لعرشكم المُفَدى وتحيتهم لذاتكم المحبوبة، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا صاحب الجلالة: بالنيابة عن مئات الآلاف من شعبكم المحبوب ورعيتكم المخلصة من أعضاء جماعات الإخوان المسلمين بمصر، أرفع الى جلالتكم هذا الرجاء، لا يدفع الى ذلك إلا حب الخير الذي تحرصون عليه لأمتكم المخلصة والحرص على المصلحة التي تحدون إليها شعبكم الكريم، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد والموثق على كل مسلم أن يجهر بالحق ويتقدم بالنصيحة «لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».
يا صاحب الجلالة: مصر الناهضة في حاجة الى الوحدة والاستقرار حتى تتفرغ للإصلاح الضروري في كل مظاهر حياتها وتدعم نهضتها على أصول ثابتة من التعاون الوثيق والعمل المنتج، ولكن الحزبية السياسية التي تفشت بين الناس، فرقت الكلمة ومزقت الوحدة وأضعفت القوة وذهبت بمعنى التعاون على الخير في شعب أشد ما يحتاج إليه التضافر والاتحاد.
الحزبية السياسية يا مولاي أفسدت كل الأعمال وعطلت كل النواحي من الخير، وأتت على كل جوانب الاصلاح، عبثت بالأخلاق والضمائر، وباعدت بين أبناء الأسرة الواحدة والبيت الواحد، وغرست البغضاء والحزازة في نفوس الإخوة والأقارب والأصهار فضلا عن الأجانب والأباعد، وجاوزت المدن الى القرى والكفور والنجوع، ففي كل قرية خلافٌ حزبي، وفي كل نجع حزازة حزبية، وكل فريق يتربص بالآخر الدوائر ويدبر له المكائد ويتفانى في القضاء عليه والنيل منه، ويشتغل بذلك عن الواجبات الشخصية والوطنية والانسانية، ويضحي في سبيل الانتصار على خصمه السياسي بكل نفيس من خلق ومال وأواصر وصلات، وصار من المستحيل على أي مصلح أن ينهض بمشروع نافع في أي بلد من بلاد القُطر، إذ تَحُولُ الخصومة الحزبية بين أعيان البلاد دون الاجتماع على النجاح، ولا يترك فريق منهم الآخر يعمل دون أن يعاكس جهوده ويقضي على ما يلقى من تعضيد وتأييد، وبذلك تعطلت مظاهر النشاط وصارت القوى وقفا على المعاندة والمخاصمات وذلك موقف لا يطاق في أمة تناديها الدقائق قبل الساعات بوجوب الجد والعمل والتكوين والنهوض الصحيح.
يا مولاي: إن الأحزاب السياسية القائمة في مصر الآن أوجدتها ظروف وحوادث وغايات قد انتهت كلها ولم يبق منها شيء، وليس هناك من تخالف جوهري في برامجها يدعو الى تعددها وتكاثرها، وكل حزب منها يدعي أنه يعمل للإصلاح في كل نواحي الحياة، مع أن الحقيقة أنها لم تفكر بعد في أي برنامج عملي منتج، تعمل على أساسه. فلا معنى لبقاء هذه الأحزاب بهذه الصورة الشكلية الجوفاء واشتغالها يالتناحر والتهاتر حول الأسماء والمصالح الخاصة والأمور الشخصية التافهة، وجرها الأمة معها في خلاف ضديد لا نتيجة له إلا أن يكسب رؤساء الأحزاب داخل الحكم وخارجه، على حساب الفلاح والعامل والصانع وغيرهم من عامة هذا الشعب الطيب القلب الذين يقومون وحدهم بكل التضحيات.
يا مولاي: لقد برهنتم جلالتكم في كل موقف على اعتزازكم بتعاليم الإسلام وحرصكم على أن تسود الروح الإسلامي النبيل مظاهر حياة شعبكم المخلص، وكنتم في ذلك خير قدوة. – ومصركم يا مولاي – زعيمة العالم الإسلامي، فلا يمكن إلا أن تكون صورة واضحة للحياة الإسلامية الصحيحة، فعنها يأخذ المسلمون وبها يقتدون. والإسلام يا مولاي دين وحدة واجتماع وتعاون على البر والتقوى وتواص بالحق والصبر، وحث على الوفاق والوئام وإرشاد إلى سلامة الصدور وطهارة القلوب ونقاء السرائر والاخاء بين الناس، وحض على الجماعة في كل الشؤون والأمور. لا يعرف الإسلام الفرقة ولا يقر الخصومة ولا يعترف بهذا التمزيق في قوى الشعب المسلم الواحد، وإنه ليتوعد المختلفين المتفرقين بعقوبة الدنيا من وهن العزائم والبعد عن النجاح، وبعقوبة الآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والله تبارك وتعالى يقول: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}، ويقول: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تَحاسَدُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَناجَشُوا، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا. بحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمَ. لاَ يحلُّ لمسلمٍ أن يَهجرَ أخاهُ فوقَ ثلاثٍ». ويقول صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أَدُلُّكُم على أَفْضَلَ من درجةِ الصلاةِ والصومِ؟»، قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ. قال: «إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ، فإنَّ فسادَ ذاتِ البَيْنِ هي الحالِقَةُ. لا أقولُ : إنها تَحْلِقُ الشَّعْرَ ولكن تَحْلِقُ الدِّينَ».
والآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في ذلك أكثر من أن يحيط بها كتاب.
يا مولاي: إن الأمم الغربية التي ليس فيها كتاب قيم ككتابنا، وليست لها شريعة مطهرة كشريعتنا، أدركت بحكم مصلحتها الحيوية ضرر الخصومة الحزبية، فقضت عليها من أساسها، واستأصلتها من ديارها، وقذفت بها من حالق، وطهرت أرض الوطن من الفرقة والخلاف. حتى انجلترا أعرق البلاد في النظام الحزبي كما يقولون، لا يكاد يرى فيها أثره أو تلمس نتائجه، وهي أمام الأخطار التي تتهدد العالم تبدو حكومة قومية، وشعبا متعاونا، وأمة واحدة. وإن فرنسا وهي مثال التناحر الحزبي، قد ارتفعت صيحات زعمائها بوجوب تعديل هذه النظم الحزبية، حتى تستقر الأمور، وتتمكن الحكومات من العمل والإصلاح. وإن حكومات الشرق التي نهضت بعد الحرب العظمى، لم تتركز نهضتها إلا على أساس من الوحدة العاملة المتعاونة. وهذه جارتنا العراق تسير على نظام الحزب الواحد وتتقدم بخطى واسعة إلى الإصلاح والإنتاج.
يا مولاي: إن الإسلام الذي يحرم هذه العصبية الحزبية، يشجع حرية الرأي ويدعو العقول إلى التفكير والنظر، ويوجب النصح والبيان، وكل ذلك في حدود الوحدة المتماسكة والكتلة المتراصة المصطفة، يظهر كل إنسان رأيه ويقول كل ما يريد أن يقول ويترك للجماعة بعد ذلك أن تحكم وأن تسير.
لهذا يا مولاي: يلتمس الإخوان المسلمون من جلالتكم أن تعملوا بسامي حكمتكم وثاقب نظركم على جمع كلمة الزعماء بتأليف هيئة قومية واحدة من جميعهم ومعهم كل أهل الكفايات والمواهب، تضع برنامج الإصلاح والنهضة في كل النواحي على أساس من الإسلام القوي العزيز الفاضل النبيل، مع تنازل كل الأحزاب عن اسمهم الخاص واندماج الجميع في تلك الهيئة الواحدة.
يا صاحب الجلالة: مع هذا الملتمس التماسات كثيرة برجاء الإصلاح الاجتماعي، إذ بدت في المجتمع المصري ظواهر خطيرة من التحلل والإباحية والخروج على الدين والخلق والفضيلة، تنذر بأخطار جسام إن لم نتدارك بالإصلاح والعلاج، وقد تناولت هذه العرائض كثيرا تِلكُم الظواهر.
وإن مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين ليشرفه أن يتقدم إلى السدة العلية بهذه الأصوات المخلصة، وأن يضم صوته إليها، فتداركوا يا مولاي شعبكم، المتنافي في الإخلاص لعرشكم المفدى، في قادته وزعمائه، وفي منهاج نهضته وكل مظاهر حياته، وخذوا بيده إلى أقوم السبيل وأنجح الخطط، وسيروا به على ضوء القرآن الكريم وعلى هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهديين من بعده.
أيد الله ملككم وأعز بعهدكم السعيد دولة الإسلام.
المخلص المطيع
حسن البنا
المرشد العام للاخوان المسلمين
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
مجلة النذير، جريدة سياسية إسلامية أسبوعية على مبادئ الإخوان المسلمين
صدرت هذه المجلة الأسبوعية في 30ربيع الأول 1357هـ (30 ماي 1938م)، وكتبت على صدر صفحتها الأولى “سياسية إسلامية تصدر على مبادئ الإخوان المسلمين”، واستمرت في الصدور بلسان حال الإخوان حتى العدد (44) من السنة الثانية في 27 ذي القعدة 1358هـ (8 يناير 1940م). وكان صاحب الامتياز ومدير المجلة محمود أبو زيد المحامي، ورئيس التحرير المسئول الأستاذ صالح عشماوي.