علوم شرعية وفقهية

كلمة مختصرة بخصوص الجدال حول النووي وصفات الله وأسمائه…

الحكام هم أكثر الناس فرحا بانشغال المسلمين – عوامهم ومشايخهم – بجدالات لا علاقة لها بواقع بلدان المسلمين اليوم ومشاكلهم الحقيقية. جدالات تصرف المسلمين عن قضاياهم وهمومهم الحقيقية، والتي يشكل الحُكْم بغير ما أنزل الله وموالاة الكفار ضد الاسلام والمسلمين، أعلاها وأهمها على الإطلاق. جدالات تصرف المسلمين عن العمل، تصرفهم عن الواجب، تصرفهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تصرفهم عن التفكير والعمل الجاد لتغيير أنظمة الحكم في بلادهم وإعادة نظامٍ يحكم بما أنزل الله، يختار فيه المسلمون من يرضونه لينوب عنهم في إقامة الشريعة وإقامة العدل على أساسها.  

من تلك الجدالات التي تضيع وقت المسلمين وجهودهم وتشغلهم عما هو واجب، الجدال حول الإمام النووي، هل هو أشعري أم لا، هل هو مبتدع أم لا!

هل مشكلة المسلمين اليوم في فهم النووي وغيره لصفات الله وأسمائه، سواء اعتبرناه فهما صحيحا أو باطلا، وسواء اعتبرنا النووي وغيره مبتدعا أو على السُّنة؟ هل يستند حكام المسلمين اليوم في تحريمهم لما أحل الله وتحليل ما حرم الله الى مفهوم صفات الله وأسمائه وكتب النووي وغيرها من كتب السلف؟ أين عقولكم؟ كيف تحكمون؟

الذين يخوضون في النووي، سواء المدافعون عنه أو الذين يذمونه، يظنون أنهم يحسنون صنعا، ويدافعون عن العقيدة الإسلامية، وهم في الحقيقة يرتكبون جريمة عظمى إذ يصرفون المسلمين عن القضايا الأهم والواجبة كالمتعلقة باستبدال حُكم الله في بلاد المسلمين بحكم الطغاة. إنهم لمسؤولون عند الله عن عِلْمِهم ووقتهم أين استعملوه.

قاعدة جوهرية: لا تخض فيما لا يترتب عنه عمل

لم يخض القرآن ولا السنة النبوية في مسائل صفات الله وأسمائه، ولا في أصل القرآن مخلوق أو غير مخلوق، ولم يسأل الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاني آيات وأحاديث الأسماء والصفات ولا مقصودها، وذلك ليس لأنهم كانوا يعلمون تفسيرها ومعانيها، ولكن لأن الرسول علمهم أن ينشغلوا بالعمل، يجتهدوا في فهم النصوص التي يترتب عنها عمل، فكانوا يتحاشون السؤال فيما لا يترتب عنه عمل. فمما وصلنا من أحاديث الرسول، قوله صلى الله عليه وسلم: «يَأْتي الشَّيْطَانُ أحَدَكُمْ فيَقولُ: مَن خَلَقَ كَذَا؟ مَن خَلَقَ كَذَا؟ حتَّى يَقُولَ: مَن خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ باللَّهِ ولْيَنْتَهِ» (صحيح البخاري). وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال: خرج رسولُ اللهِ على أصحابِه وهم يَتنازعونَ في القَدَرِ، هذا يَنْزِعُ آيةً وهذا يَنْزِعُ آيةً، فكأنما سُفِي في وَجهِه حَبُّ الرُّمَّانِ (أي احمرَّ وجهُهُ)، فقال: «ألِهذا خُلِقتُم أم بِهذا أُمِرتُم، لا تَضرِبوا كتابَ اللهِ بَعْضَه بِبَعضٍ، اُنظُروا ما أُمِرْتُم به فاتَّبِعوه ومانُهِيتُم عنه فاجتَنِبوه» (كتاب السنة ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم، تحقيق الألباني، والحديث حسنه الألباني).

فهذه قاعدة جوهرية يجب على المسلمين الالتزام بها كما التزم بها الصحابة: لا تخض فيما لا يترتب عنه عمل؛ لا تبحث في الغيبيات التي لا يمكن لعقل الإنسان بحال إدراكها.

النقاش حول صفات الله وأسمائه لم يظهر إلا مع ظهور علم الكلام منذ حوالي أواخر عهد الأمويين

ومن ثم، النقاش حول صفات الله وأسمائه لم يظهر إلا مع ظهور ما سُمي بعلم الكلام، الذي بدأ بشكل محدود في أواخر عهد الأمويين، لينتشر بقوة في عهد الخليفة العباسي عبد الله بن هارون الرشيد الملقب بالمأمون (وُلد سنة 170هـ وتوفي عام 218هـ)، الذي ازدهرت في زمانه ترجمة كتب الفلسفة الى اللغة العربية، فتأثر بها البعض ونهجوا نهج فلاسفة الغرب من حيث التطرق لما هو متعلق بالذات الإلهية وعلى رأسها صفات الله (وليس بالضرورة إقرار ما توصل له فلاسفة الغرب من مفاهيم). فتفرق المسلمون الى عدة تيارات، أهمها “الجهمية” (ينسبون إلى الجهم بن صفوان، قُتِلَ سنة 128هـ)، و”المعتزلة” (أتباع واصل بن عطاء الغزال؛ توفي عام 131هـ، وعمرو بن عبيد؛ توفي سنة 143هـ) و”الأشاعرة” (نسبة إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، توفي  سنة 324هـ)، والماتُريديَّةِ (تبعًا لأبي منصور محمد الماتُريدي السَّمَرقَنْدي؛ توفِّي سنة 333هـ)، وغيرهم، وهؤلاء يتم غالبا تصنيفهم تحت مسمى “أهل الكلام”. مقابل هؤلاء اجتمع من خالفهم المنهج تحت مسمى “أهل السنة” أو “أهل الحديث”. من بين الاختلاف بين تلك الفرق، أبحاثهم في النصوص المتعلقة بصفات الله: فمثلا منهم من أوَّلها، ومنهم من أثبت ظاهر ألفاظها وفوَّض الكَيْف الى الله (تفويض جزئي)، ومنهم من آمن بها دون أن يخوض لا في المعنى ولا الكيف (تفويض كلي لله). وكلٌّ فرقة ادعت أنها إنما تريد بطريقة فهمها لتك النصوص، تعظيم الله وتنزيهه من التشبيه بمخلوقاته.

التفسيرات المتعلقة بصفات الله ليست من العقيدة

لكن الخطأ الكبير الذي وقع فيه السلف والخلف، أنهم اعتبروا مفاهيمهم للنصوص المتعلقة بالصفات وغيرها من النصوص المتعلقة بالغيب كرؤية الله يوم القيامة (وغالبها نصوص ظنية الدلالة)، – سواء من أخذ بظاهرها أو من أوَّلها -، على أنها من العقيدة، اعتبروها من أصول الإسلام. وهنا مربط الفرس! فترتب عن هذا التصنيف، تكفير أو على الأقل تفسيق أو تبديع المخالف. اعتبروا مفاهيمهم عن الصفات، وهي كلها قطعا ظنية، – حتى قول أهل السنة -، اعتبروها من العقيدة، وهذا باطل، فالعقيدة لا تؤخذ بالظن، ومن ثم كل التفسيرات والمفاهيم المتعلقة بالغيب وعلى رأسها صفات الله، ليست من العقيدة ولا من أصول الدين، وتبعًا لذلك لا يجوز أن يُبنى عليها أي أحكام على عقيدة المسلم ولا يُحاكم على أساسها أحدٌ.

صفات الله من الغيب الذي لا يمكن للإنسان إدراكها

صفات الله من الغيب، لا يمكن للإنسان بحال إدراكها ولا البحث فيها، ولم نؤمر بذلك. الذي أُمِرْنا به هو الإيمان بكل النصوص الواردة في القرآن والسُّنة الصحيحة، وهذا الإيمان هو الذي يدخل في العقيدة. لكن التفسيرات لما هو ظني الدلالة من تلك النصوص، خصوصا المتعلقة بالغيب، فليست من العقيدة. فكثير من النصوص في القرآن والسُّنة، الإيمان بها لا يستوجب فهْمَها ولا تفسيرها، أُمِرنا بالإيمان والتسليم بها، ليس إلا. فمِن العقيدة أن نؤمن – مثلا – بأن الله يرى كل ما نفعل ويسمع كل ما نقول، لكن ليس من العقيدة تفسيرنا لصفات السمع والبصر، سواء التفسيرات المثبتة لظاهر الكلمات أو المؤولة لها.

قد يظن أهل الحديث أنهم بإثباتهم للمعنى الظاهر للألفاظ الواردة في الصفات، بأنهم على حق، وغيرهم من أهل الكلام الذين أولوها أو فوضوا معناها لله على باطل. .. أقول، ومن أين لكم اليقين بأن إثباتكم لمعاني الألفاظ حسب فهمنا نحن البشر للغة العربية، هو الفهم المُراد؟

مما هو مُقرر أن الله ورسوله استعملا المجاز والكناية في عدة نصوص، يقول الشافعي في كتاب الرسالة: [فإنما خاطب الله بكتابه العربَ بلسانها على ما تَعْرِف مِن معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساعُ لسانها، وأنَّ فطرته أن يخاطب بالشيء، منه عامًّا ظاهِرًا يُراد به العام الظاهر ويُسْتغنى بأوَّل هذا منه عن آخِرِه، وعاماً ظاهراً يراد به العام ويَدْخُلُه الخاصُّ فيُسْتَدلُّ على هذا ببَعْض ما خوطِبَ به فيه، وعاما ظاهرا يُراد به الخاص، وظاهر يُعْرَف في سِياقه أنَّه يُراد به غيرُ ظاهره] (ا.هـ). 

والأمثلة على المجاز كثيرة في القرآن والسُّنة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، قول عائشَة رضي الله عنها، قالَتْ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأزواجِه: «أسرَعُكُنَّ لُحوقًا بي أطوَلُكُنَّ يدًا». قالَتْ عائشَةُ: فكُنَّا إذا اجتمَعْنا في بيتِ إحدانا بعدَ وَفاةِ رسولِ اللهِ، نَمُدُّ أيدِيَنا في الجِدارِ نتَطاوَلُ، فلم نزَلْ نَفعَلُ ذلك حتى تُوُفِّيَتْ زَينَبُ بنتُ جَحشٍ – وكانتِ امرأَةً قصيرَةً ولَم تكُنْ أطوَلَنا – فعرَفْنا حينئِذٍ أنَّ النبيَّ إنَّما أراد بطولِ اليَدِ الصدَقَةَ، وكانتْ زَينَبُ امرأَةً صنَّاعَةً باليَدِ، وكانتْ تَدبُغُ وتَخرِزُ وتتصَدَّقُ في سبيلِ اللهِ (صحيح البخاري). إذا كانت أمهات المؤمنين، في أمرٍ لا يتعلق بالغيب، فهمن معنى اليد على الظاهر، فتبين لهن لاحقا بالدليل أن “اليد” معناها مجازي، فكيف يمكننا الجزم بمعاني ألفاظ متعلقة بالغيب؟!

مما تقدم، الصواب – الذي يغلب على ظني -، أنه لا يمكننا الجزم لا بصحة إثبات المعنى الظاهر للألفاظ الواردة في النصوص المتعلقة بصفات الله وغيرها من الغيبيات، ولا الجزم بالمعاني المُؤَوَّلة، ومن ثم تبقى كل تلك المفاهيم ظنية لا يجوز إدخالها في العقيدة، فلا يجوز بناء أحكام على أساسها. لا يجوز تكفير مسلم أو تبديعه لأنه خالف تفسيرا ظنيا لنصوص ظنية الدلالة من القرآن والسنة، فما بالك بنصوص ظنية الدلالة في مسائل غيبية ولا يترتب عنها عمل، حتى لو تبنى ذلك التفسير كثير من كبار علماء السلف والخلف. 

المسلمون اليوم لهم قضايا غير التي عاشها السلف، مشكلتهم الكبرى “تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله وأسلمته”

وأخيرا وليس آخرا، إذا كانت “معركة” خلق القرآن وصفات الله، ذات أولوية في عصور سابقة، عصور لم يكن يعرف فيها المسلمون مشاكل ومصائب مثل التي نعيشها اليوم ولا حتى يتخيلونها، حيث كانت الدولة الإسلامية قوية وباسطة نفوذها على أجزاء واسعة من العالم، وكانت كل بلاد المسلمين تُحكم بشريعة الله حصرا، ولم يكن حكام المسلمين يوالون الكفار ضد الإسلام والمسلمين، وكانت للمسلم عزة وهيبة في كل العالم، ولم يخطر ببال العلماء والأمة خلو حياتهم من خليفة يحكم بما أنزل، .. أقول إن كان علماء السلف انشغلوا بـ “معركة” خلق القرآن وصفات الله، وذلك حال بلادهم وحكامهم ومكانتهم في العالم، – مع اعتقادنا بأنهم أخطأوا حين صنفوا تفسيراتهم ضمن العقيدة، فترتب عنها ظُلما التكفير أو التبديع -، … فالمسلمون اليوم لهم قضايا ومشاكل غير التي عاشها السلف، ومشاكلنا أكبر وأعظم، وكثير منها مسائل تدخل فعلا في لب العقيدة الإسلامية: وهي تسويغ “الحكم بغير ما أنزل الله” وأسلمته! … هذه هي معركتنا الرئيسية اليوم، هذه هي معركة حراس الدين وحملة الدعوة! …

لا تعيشوا في ماضي غيركم، ولكن عيشوا حاضركم، حاضر أمتكم، تصدوا للمشاكل الرئيسية التي يعيشها المسلمون، وبيِّنوا لهم العلاج من القرآن والسنة. على رأس مشاكل المسلمين اليوم، الحكم بغير ما أنزل الله، وما ترتب عنه من فقدان للهوية الإسلامية، وضعف وذل وتشرذم واقتتال بين المسلمين، وتكالب الكفار على بلدانهم وخيراتهم، واحتلال بلدانهم، وتشريد المسلمين، وانتهاك حرماتهم، الخ … 

حاضرنا تمر فيه قضايا مصيرية وفتن تهدم عقيدة المسلمين والاسلام، حيث أصبح مثلا من الإسلام تنظيم مهرجانات اللهو من رياضة وفن، بما يكتنفها من محرمات وكبائر، كإظهار للعورات واختلاط وخمور وتبذير للأموال وتضييع للوقت، .. وأصبحت “العلمانية الناعمة” من الإسلام وفي خدمة الإسلام وفرضٌ على المسلمين انتخاب العلماني الناعم، .. ومناهج تعليم تلقن أطفالنا وشبابنا الكفر البواح، مثل ثقافة مجتمع لوط، الخ …..

كيف يدَّعي تعظيم الله، من يسكت عن ركن رئيسي من الإيمان، وهو وجوب الحكم بما انزل الله، ويوقر حكام المسلمين الظلمة الذين يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل، ويحاربون كل من يدعو للقسط والعدل، ويوالون الكفار ضد الاسلام والمسلمين، فلا يأمرهم بمعروف ولا ينهاهم عن منكر؟ .. الله لم يأمرك أن تفهم معاني ألفاظ صفاته ولا أن تخوض فيها، لكن أمرك أن تطيعه فيما أمرك به من حلال وحرام، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر! 



 

جميع الآراء الواردة بهذا المقال تعبر فقط عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

Print Friendly, PDF & Email
اظهر المزيد

د. هشام البواب

الدكتور هشام البواب، ناقد ومحلل سياسي واجتماعي مستقل . مقالاته تشمل موضوعات سياسية واجتماعية وفقهية وعلوم تجريبية :::::: بعض كتابات الدكتور هشام البواب في الرابط التالي: https://atanwir.com/منشورات-الدكتور-هشام-البواب ::::::: hicbou1@mailfence.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Enter Captcha Here : *

Reload Image

زر الذهاب إلى الأعلى